اسم الكاتب : مهنا الحبيل

كاتب باحث في الفكر الإسلامي

موت الدولة

تاريخ النشر: 01 مايو,2024

صورة المقالة

موتُ الدولة

 

مهنا الحبيل

 

لا يتوقف على الناس إطالة حياتهم، (فلا يطيقون ذالك) ولكن على الناس يتوقف فنُ إطالة عمر الدولة.

جان جاك روسو

 

هل علينا حين نبحث أفضل أشكالٍ للدولة، تحقيقاً لمصالح الشعب أن نراهن على خلودها، أم أن سقوطها وموت عهدها قدرٌ لازم؟

هذا هو السؤال الذي يُفجّره العقد الاجتماعي لروسو في علم الاجتماع السياسي، لا من حيث استشراف سقوط الدول وأسبابه، ولكن من خلال أنهُ قناعة تأسيسية، يخرج فيه المُنظّر الفلسفي، عن دائرة الخوف والقلق، في معارج البحث عن الانعطافات التي تحتاجها الدولة، في إعادة بنيانها، أو استئصال فسادها.

يُحاول روسو أن يضع أساساً متيناً لهذه القاعدة، مذكراُ بأن الخلود حتى في إطاره الدنيوي لا يُمكن أن يتحقق للقدرة البشرية، فهو في أصل قدراته عمل إلهي، فتُردّدُ مع روسو هنا أبيات أبي البقاء الرندي في رثاء الاندلس، لكن وفقاً لعقيدة روسو في الدولة المستحيلة، وهي الدولة الخالدة:

لكُل شيء إذا ما تم نقصانُ      فلا يُغرُ بطيب العيش إنسان

هي الأمور كما شاهدتها دول   من سره زمن ساءته أزمان

 

 وكأن روسو يبعث صاعقاً كهربائياً، لننظر في حال العالم، ونذهب معه الى طبيعة الأشياء والمكونات، فنخرُج من فلسفة الوهم، الى يقين فلسفة علم الاجتماع، المرتبطة بتاريخ الإنسان والأمم، ولعلي هنا أتساءل، هل استمرت رحلة الفلسفة، في خيالها، أم انعطفت في الغرب نحو هذا المفهوم، المختلف تماماً، عما يُسمّى بالمدرسة الواقعية.

 من حيث أن روسو لا يُقدس الواقع المصنوع، بل يعمل على هدمه، بكفاح العقل والنضال الأخلاقي، غير أنه يضع الفطرة أو الطبيعة بين عينيه، ليستبين الناس الرؤية.

يربط روسو مآل الدولة بمآل الإنسان، وطبيعة ما يتعرض له البشر، لكنه يقول أن الإنسان لا يملك إطالة حياته، ولكنه يملك عبر فن التفكير، ونظريات التشريع، والموازنة بين الواقع والتحديث الإصلاحي، بما فيه الثورات بحسب سياقات فلسفة روسو، من إطالة عمر الدولة، ومع ذالك فقد تصاب الدولة بالفالج وبالجلطة، فتسقط، فيُقدم روسو توصيفاً رائعاً للدولة، التي تموت فيها سلطة المرجع الاشتراعي وشراكة الشعب، حين تفقد روح الدولة، فتعيش كإنسان أبله، وتموت كالحيوان.

ويُحفّز بقوة إلى تجديد القوانين، بل إبطالها وبعث روح قانون جديد، يتجاوز أزمة الماضي وعجزه عن إدراك المتغيّر، غير أنهُ يُحرّض على بقاء روح القوانين الأساسية الكبرى، وأن هذه الروح هي من يُستمد منها سلطة التشريع، الملزمة للأمير أو الحكومة، فيكون القديم أكثر حُرمة من سواه، ولكن يُجدد روح القانون كل زمن، فضعف القانون في ضمير الناس، يعني مقدمةً لموت الدولة.

يُبعثر روسو بعد ذالك أوراقه، في سؤال بقاء وقوة واستمرار دولة السيادة الشعبية، يُعيد التأكيد على أنهُ لا قوة يملكها صاحب السيادة سوى القوانين وإلزام الأمير بها، يهيم من جديد في تاريخ الدولة الرومانية، لأن الشعب يجتمع ليحكم من الميدان، فيُقر ما يرتضيه عبر التصويت المباشر.

 لاحظ هنا احتمال خطأ روسو، في أن تلك الإرادة التي تخرج للميدان تعني حكم الشعب بنفسه ونزوله للتشريع، وأقصد هنا تقدير الحكم على أن الشعب مارس حضوره بكليته، ومؤكد أن روسو يعلم أن تلك الجموع مهما كانت حاشدة، فهي لا تمثل الأجماع الذي يعنيه، في نزول الشعب ليقر القوانين، ويمارس بعض الحكم التنفيذي، أو التشريعي المعد للتنفيذ فوراً.

لكن روسو يطرح احصائيات الدولة الرومانية، التي يسيطر التوله بها، على خياله وتفكيره، بل القدوة في نموذجه المرتجى، فهل كون رومة في آخر إحصاء تحتوي حسب أرقام روسو نفسه، على 400 الف مواطن استثني منهم العبيد والنساء والفتيان، قد خرجوا في هذا الميدان العام؟

بالطبع هذا لا يمكن تصوره فمن خرج هو جزءٌ من شعب روما العاصمة.

لكن هل بعث هذه الرؤية اليوم يحتاج إلى مناقشة معاصرة، ربما يتداخل مع طرح روسو، نموذج الربيع العربي في تونس واليمن وسوريا وليبيا، ومنها الثورة المصرية في 25 يناير 2010، نقصد هنا تحديداً الخروج للميادين العامة، لردع السلطة التنفيذية الظالمة المستبدة، عن قمع رياح التغيير، في سبيل إقامة سلطة، تخضع للإرادة الشعبية.

 غير ان مآل هذه الثورة أو الانتفاضة في هذه البلدان، تم الانقلاب عليه، فهل كان روسو يقصد هذا المعنى، أم أن الواقع الذي أشار له، وله نماذج في أمريكا اللاتينية وغيرها، هو خروج الشعب لضمان التشريعات، بعد نجاح الثورة الشعبية الدموية، التي بالفعل أقامت محاكم عنيفة، أبادت فيها جزءً من عصبية الحكم القديم.

بمعنى أن هذه النماذج العربية ليست مكتملة، وفي ذات الوقت فإن خروج الشعب للميدان كان بعد هيمنة الثورة أو تجديد الحكم، لكن لا تزال قوى الشعب ضعيفة وقدرات الثورات هشة.

 وهي أوراق مختلطة تحتاج إلى فرز ونقد دقيق، الحصيلة هنا هو أن بقاء الشارع في الميدان لحماية مكتسبات النظام التشريعي، والتدخل في السلطة التنفيذية، حتى لا ينقض العقد الاجتماعي مدخل إيجابي مهم، لكنه من بعد تاريخ رومة القديم حتى اليوم، ومنها ظاهرة السترات الصفراء، التي تقارب نظرات روسو، لا يُعرف مقدار نجاحها، أو مساحة انقلاب السلطة عليها.

ويوضّح روسو طرحه هنا، باستدعاء المجالس الشعبية للانعقاد، حتى بعد استفتاء نظام الدولة، وانتخاب الحكومة الدائمة بعد الثورة، وأن هذه المجالس لا يملك أحدٌ تأجيلها، ولا يُشترط فيها أذن السلطات، لاحظ هنا أن نفس الفكرة، استخدمت في مصر على سبيل المثال، لكي تُنقض ثورة يناير ذاتها، عبر (الثورة) المدعومة من الجيش في 30 يونيو 2013.

 وحتى في إدراك ذات التيارات والشخصيات، التي رأت أن القوى الدينية هيمنت على السلطة، واستغلت صوت الشعب، هي ذاتها ادركت الخسائر الكبرى، في رفضها الانتظار حتى جولة انتخابات أخرى، وبالتالي ندرك هنا حجم مساحة الاضطراب في تأطير هذه الأفكار، وتحويلها إلى نماذج عابرة للزمن في علم الاجتماع السياسي، فقاعدة روسو قابلة للتأويل من طرفين متناقضين، بل من نظام الأمير نفسه (السلطة الحكومية المطلقة)، الذي يستخدمها في نقض العقد الاجتماعي وحق السيادة الشعبية.

وحتى تقسيم روسو لتحرك المدن في ميادينها العامة، بين تعدد الميادين أو اقتصارها على ميدان واحد، فهو سلوك ثوري مرت به الحالة العربية أيضاً، ولم تُعطي تغييراً كبيراً، لما بعد الثورات، وإن كانت وحدة الشعب، في مفاهيم الحقوق تحتاج أن ترفع راياتها، من كل الأرجاء كما قال روسو، ولكننا هنا نناقش قدرة الإرادة الشعبية، التي من الصعب ضمان غالبيتها، من عرقلة هدم الدولة ونقض حق السيادة التشريعي.

ولعل روسو يلخص فكرته في نهاية الفصل ذي العلاقة حين يقرر أن: 

(متى كان المواطنون بخلاء أنذالاً جبناء، أشدُّ حُبا للراحة من (متطلبات الحرية) فقد صاروا لا يعارضون جهود الحكومة (ضد سيادة الشعب) زمنا طويلاً فإن السلطة الشعبية صاحبة السيادة، تزول بنهاية الامر وتهلك المدن قبل الأوان). وهو ما نحتاج معه الرجوع الى مقولته الأخرى (إن من المنطق  أن يُبصَر الممكن من الواقع).