اسم الكاتب : نورة بوحناش

باحثة وأكاديمية جزائرية، حاصلة على الدكتوراه من جامعة قسنطينة,

علمنة الاجتهاد في المدونة الأركونية -الحداثة والاجتهاد البديل في فكر محمد أركون-

تاريخ النشر: 01 مايو,2024

صورة المقالة 1

   استهلال – الاجتهاد،التكليف وسؤال الحداثة : قضت صدمة الحداثة،بانفتاق الأفق العربي الإسلامي، إلى ثنائية تقابلية بل وصراعية؛هي تعبير عن تزاحم أنطولوجي بين قديم وطارئ،أو ما اصطلح عليه جدلية الأصالة والمعاصرة.والحق أن هذه المزاحمة تؤول إلى الرهانات القوية والمجاوزة للحداثة في حد ذاتها،كإطار كوني يؤسس نفسه،على العقلانية النقدية حيث تتم مساءلة الأفكار،واخضاعها للتفسير والتجاوز،ثم إلى عقلانية إجرائية،تجلت في الزوج العلم والتقنية،بقوته التحققية الفاصلة.

  تولدت عن هذه الطبيعة الصراعية لثنائية القديم والطارئ،حالة انبهارية واندهاشا حضاريا؛كان حاصلها ثبوت الوعي على حالة من التقليد ثم التنافر:تقليد للقديم وتقليد للحديث،سيعقبهما تنافر بين ممثلي القديم وممثلي الطارئ.لقد أدى هذا الانسداد والانقطاع التواصلي بالنسبة للطرفين إلى افتقاد الوسائل المنهجية،لوعي الواقع و تطلع استشرافي،نحو فكر إنساني متحرر من القبليات التاريخية والثقافية،ومن ثمة السؤال عن مقاصد الصراع،بغية النهوض إلى قراءة موضوعية للذات،فكًا لها من حال الجمود والثبوت.

   تجاوزت المماحكة بين الطرفين،لتكون جذبا أيديولوجيا ينهك العقل،وحربا سياسية ؛لا تمتلك الإطار الفكري العام والكوني،بقدر إدارتها لمعركة نضال سياسيوية،خلصت إلى بناء شكل من التنازع المعرفي،قضى بضرورة التفكير بمنطق مبتذل،تجلى في المقابلة بين من يكون معي، ومن يكون ضدي.وستنبثق بعد ذلك حالة من الوعي المضاد، تجلت في حرب لم تضع إلى حد الآن أوزارها،مع ورود تسيير براغماتي لهذه الحرب،من قبل أطراف شتى غايتها تكثير المصالح والاستزادة منها،ثم هيمنة كلية لمنطق المركزية الغربية،التي تترأس هذه الحرب ؛بل وتدفع إليها بشتى السبل والوسائل.

    فيما يخص الفكر العربي الإسلامي المعاصر،فيؤلف بالنسبة له التحليل الأركيولوجي،لمثل هذا الصراع بين الأصالة والمعاصرة،منحا حيويا،وذلك تحليلا للمدارك المعرفية،التي تدير مثل هذه المعركة بين مناضلي القديم والطارئ.ومن ثمة الكشف عن صلتها بمنطق القوة والسلطة؛خاصة أن الصراع بين الطرفين تقوده النمذجة المفروضة من قبل المركزية الغربية،وقد فرضت تراتبية التخلف والتقدم،بوصفها وعاء السباق نحو المغايرة،أي أن النضال بين الطرفين يسيره الأنموذج الحداثي الغربي،حتى وإن تعلق الأمر بالمدافعين عن الأصالة.

     بهذا يكون براديغم التحديث مصوغا غربيا خالصا،ومنتوجا لجدل تاريخي غربي محض؛وهذا إنطلاقا من  المسار الزمني الذي سرى من العصور الوسطى،بما أنها زمان غربي وقالب تاريخي مخصوص،ليتهيكل عبر الصراع الحادث بين الإنسانوية النهضوية والكنيسة،بوصفها مؤسسة ذات سلطة وتوجيه.لكن سيكون هذا التاريخ الغربي،تاريخا نسقيا معمما على الثقافات،وهذا انطلاقا من نزعة الهيمنة ،التي تميز المركزية الغربية بالفوقية والتعالي.لذلك يمثل وعي طبيعة القيم المحركة للصراع بين القديم والطارئ،قاعدة لفهم السياقات التاريخية،المُشكلة للوعي الغربي،ثم النظر في صلاحيته من عدمها،وذلك عند انزياحه نحو آفاق أخرى مغايرة،وسياقات مختلفة،وعلى الأخص الأفق العربي الإسلامي.

  هو استثناء منهجي ضروري،يفرض النظر والفحص.فهل تمثل الحداثة بمرجعياتها وأدواتها،وعيا كونيا صالحا لكل فتوح معرفية وفكرية؟ما مدى صلاحية الطارئ،الذي يردم القديم ويفكك الأصول؟هو سؤال مركزي،مثل عند روني غينو الخطة الأساسية في نقده للحداثة،بما أن الحداثة تردم القديم دون التحقق من صلاحيته أو عدمها،وتؤسس الجديد دون النظر إلى ملاءمته للإنسانية وللطبيعة.فما طبيعة هذه الحياة التي تقتل أصولها وتاريخها؟ أتكتمل الحياة،دون بعد أنطولوجي يبرر وجودها ويمده بالمصداقية؟[i].

   لاجدال إذن بأن المقابلة بين الحداثة والتقليد،هي مقابلة بين تاريخين،وأسلوبين في التفكير؛ويعود الصراع الحاكم بينهما إلى الطبيعة الفوقية للحداثة،إذ بدت أنها تضمين لمتناقضات،فتكون أول المفارقات،التي تحملها الحداثة في طياتها،هي القبول النمطي بالاختلاف؛ثم النكوص الكلي عن اجرائه فعلا وتطبيقا.وهو بَيِّنٌ في اتخاذها البعد المعياري المتعالي،بما أنها تقبل وترفض تراثات الإنسانية،انطلاقا من فوقية نمطية بل وجامحة،مؤلفة فيها سلطة المركز والمسير الأكبر،نحو غايات هي التي تحددها.

     ضمن الإطار السابق،أمعنت الإسلاميولوجيا مثلا-كحقل درس غربي عن الإسلام - في توحيد الرؤية بين أديان الوحي الثلاثة،وكرست بينها تطابقا غير علمي ولاتاريخي،يفتقد إلى تحقيق مناط النصوص الدينية الكبرى،التوراة والأناجيل ثم القرآن؛وهو المعنى الذي عمل محمد أركون على ترسيخه،معتبرا أياه مقدمة معرفية أولى،في نقده للفكر العربي الإسلامي،وفي دعوته لتاريخية القرآن ثم تحليله لآليات التأصيل ؛واصراره على علمنة الأفق العربي الإسلامي،سيرا نحو الانضواء تحت سلطة المركزية الغربية بالنظر إلى حتمية الحداثة.

   تنطلق المقابلة الأنطولوجية،التي تجريها الحداثة بين ذاتهاوالآخر،من مسلمة الكوجيتو بوصفه يقينا ذاتويا خالصا يفرض الريبة والشك ثم العقل؛إذ احتمت الأنا بذاتها في سبيل مراجعة كلية للوعي[ii]،وإثارة ملف تاريخي هو مراجعة التراث المسيحي[iii].أما  الصلة التي قد تجريها أنا الكوجيتو مع الآخر،فتبدأ من عقيدة نرجسية،تثق ثقة كلية في ذاتها،فكانت استئصالية منذ البدء.لتكون حال الأفضلية هي لعقلانية الكوجيتو،كما أنها مصادرة وبداهة لا تحتمل المناقشة؛إنما تمثل النمذجة والمثال المغلق الذي يؤسس الوجود من عدمه،وبالتالي فكل وجود سيقاس على هذا الوجود ويمتثل له.

   أما أدوات التفكير المتخذة في الإطار الكوني لعقلانية الكوجيتو،فتشكل فضاء تقنيا كونيا بمعنى غربيا،معتبرا الأداة العقلانية عبر تشكلها في إطار الإبستيمي الغربي،سبيل الحق الفاصل.حينئذ تصبح الذوات المخالفة،موضوعا للدرس التطبيقي،فتتشكل ويعاد توليدها،حسب المقتضى المرجعي الغربي،وتنتهي إلى خدمة ملف السيطرة،الذي تنوي الحداثة إجراؤه على ثقافات العالم.

  يؤكد حاصل الفروض المعرفية والمنهجية،التي تجريها الحداثة على الآخر إجراء شموليا،أن التحديث الخارجي هو ضرب من القوة والسلطة الفوقية؛بما أن الثقافة الغربية جملة،تكرس هيمنة إمبريالية على التراث الإنساني بوجه عام[iv].فهل تمثل المدونة الأركونية،الأنموذج التطبيقي الذي تجريه الحداثة على تراث الآخر،انزياحا نحو السلطة والهيمنة؟إلى أي مدى يتطابق العمل الذي أدته هذه المدونة،مع المسار الاستكشافي المهيمن الذي أجرته الحداثة،مدا لسلطتها على الآخر،ومن ثمة إعادة تشكيله تماثلا وانصياعا للكوجيتو؟ خاصة أن احتفاء أركون بالعقل الغربي،وإجراءاته النقدية دون السؤال عن مقاصد هذا العقل-اتجاه الآخر وبخاصة اتجاه الذات العربية الإسلامية-يثير الأسئلة ويكشف عن طبيعة المهمة الاستراتيجية للمشروع الأركوني جملة وتفصيلا،فمن الواجب الوقوف هنا عند سؤال مركزي.هل يؤدي التفكيك الذي تجريه المدونة الأركونية،إلى تطور الفكر الإسلامي أم إلى إنهدامه ونهايته؟

  إن منطق الأفضلية الكونية لأنا الكوجيتو،هو الذي يطوع الثقافات والتواريخ،من أجل الامتثال النمطي لتاريخ،أصله الصراع ،بين الإكليروس والنزعة الإنسانية،في عصر النهضة الأوروبية. نتيجة ذلك،هو وقوع كل دين تحت طائلة المساءلة،النقد والتجاوز،كما هو حال المسيحية،ذلك أن  الكوجيتو هو مستخرج نقدي،لتجاوز أزمة التراكم اللاعقلاني للعقيدة المسيحية، أمام النمو المطرد للعلم وتطبيقاته التقنية.

 وإذن سيكون من الأجدر السؤال،عن طبيعة الاختلاف بين أديان التوحيد الثلاثة،وحركتها التاريخية وبنيتها النصية الدلالية ومقاصدها الوجودية والأخلاقية.كما والحفر في طبيعة الكوجيتو،بما أنه بداية نقدية،وإطار استراتيجي لمنطق التجاوز.من جهة أخرى فمن الضرورة تتبع النقد الفلسفي والعلمي،الذي يجري لبيان النتائج الوبيلة للحداثة على الإنسان والطبيعة.

   انطلاقا من التقصي التاريخي والنقدي لمنشأ الحداثة وخلاصاتها،يرد الاستفهام،حول طبيعة المدونة الأركونية،فيما سعت إليه من تفكيك العقل الإسلامي،وإعادة صياغته وفق البنية المرجعية للمعرفة التاريخية الغربية؛بل وبنسختها الفرنسية التي تؤول إلى علمانية شديدة الوصال بالفلسفة الوضعية،التي أقرت بتاريخية الأفكار،وفوقية الحداثة وأدواتها المختلفة.

   عود على بدء،يقود الاتجاه الحداثي في الفكر العربي الإسلامي الصراع من جهة النمذجة الغربية،وينضوي في تحركه المعرفي داخل إطار المركزية الغربية،ويفكر عبر المفاهيم والمصطلحات المنجزة من قبل التاريخية الغربية.كما ويقود الاتجاه التقليدي في هذا الفكر المعركة من قبل النمذجة الكلاسيكية،ويفكر عبر المفاهيم والمصطلحات المنجزة من قبل التاريخية العربية الإسلامية،ويعجز عن تقديم البدائل المعرفية والمنهجية.

  وعموما ففي النهاية،يبدو التقليد هو القول الفصل،في المعارك الفكرية التي تحرك الفكر العربي الإسلامي،منذ لقائه بالآخر واعدا إياه بالنهضة،والانتقال نحو عتبة الابداع.فهل من بناء لرؤية تكاملية معرفيا ونهجيا،قد تقوم بتكسير الأطر الدوغمائية التي وقع فيها الإتجاهان؟

       من أهم القضايا التي أثارت الجدل والمماحكة في الفكر العربي الإسلامي هي قضية التراث،التي بدت عصبا أسال الكثير من الميداد وأثار الحوارات تلو الحوارات[v]؛لكن مهلا ألا تعد صياغة مساءلة التراث،أحد المهام التي أدتها النهضة الأوروبية؟ ماذا يعني نقد التراث؟ أيكون الوعي العربي الإسلامي،مؤديا لمثل هذه المهمة،في مدار تقليد المهام الفكرية التي أداها الإنسانيون الغربيون،سيرا نحو الكوجيتو؟ألا تعد هذه الخطوة عين التقليد؟ وإذن فهل يكون جدل التغيير قد تم انجازه،في مدار التقليد التاريخي للحداثة الغربية،وبالذات تحت سلطة السلطة الاستعمارية؟ما هي الصلة بين هذا النقد والانزياح نحو المركزية الغربية التي تعني خطية الأفكار،ورفض المغاير وتأليف النمطية الفكرية القطعية؛على الرغم من جعلها العقلانية النقدية إحدى بداهاتها الأكثر صرامة؟

   يعد الاجتهاد أحد المفاهيم الإسلامية الحصرية،ربما سيؤلف هذا المفهوم أكثر مساحات المناوأة بين الإسلام والحداثة،فالمفارقة بين المفهومين عميقة وفاصلة؛بينما يفترض الاجتهاد التأصيل والاقرار بالتراث دون مناوءة،في حين تؤلف الحداثة بعدا انشطاريا ،لما يصطلح عليه الأصول تفكيكا وهدما لها،وهذا في مدار السعي الدؤوب الذي تؤديه،سيرا نحو التقدم كإطار مرجعي،فرضه براديغم العقلانية في الغرب منذ اللحظات الأولى،لتجلي مطلب التجاوز إثر صدمته العقدية الكبرى،وقد أصابه جراء الانقلاب الكوبرنيكي والتصحيح الغاليلي.

    تعتبر الحضارة الإسلامية حضارة اجتهاد،بما أن الإسلام يعني الوصال مع أصل هووي مركزي هو الوحي،فلن تؤدى مهام كل تفكير استشرافي إلا في إطاره؛إذ الوحي يكلف الإنسان بأداء الأمانة،في أصل خلقته،فيكون التكليف عصب أول،في المهام التي يؤديها المسلم،هناك إذن صياغة نووية تتجلى في علاقة ثلاثية،هي الوحي    الإنسان المكلف                         مقصد الصلاح.

    تؤلف الثلاثية السالفة،مرجعية كونية تثبت حركة الوجود الإسلامي؛فلا إسلام دون الالتزام بالشهادة،التي تعني القول والفعل؛وإكمالا للمسيرة بوصفها اعترافا إنسانيا بأداء الأمانة،التي وكل بها الإنسان،في ظهر الغيب سيرا نحو تثبيت مقاصدها.بهذا  يكون الاجتهاد، حلقة الوصل بين الإنسان،وما كلف به في هذا الكون من قبل الله.

   في حالة ربط الاجتهاد بالحداثة،يُسْتَدْعَى السؤال عن كيفية التوفيق بين إلإنسان المكلف،بمعنى القاصد إلى الصلاح من جهة،والمهام التي يجب أن يؤديها الإنسان سلطة على الطبيعة وامتلاكا لها،من جهة أخرى.ستؤدي المفارقة بين التكيلف أداء للأمانة،والتسلط نيلا للسعادة إلى خلخلة مفهوم هذه الأمانة،إذ تحيل صورة الإنسان المكلف،تسلطا على الطبيعة امتلاكا ونيلا للسعادة إلى مفارقات،تتجلى في جملة انشغالات تطرح على المدونة الأركونية،محددة لوظيفتها في الفكر العربي الإسلامي المعاصر.فهل من تناسق بين التكليف والمسار العلماني الذي يعني التنازل عن هذا التكليف؟ماذا تعني العلمانية إلا فك الوصال بين التكليف،وضبايبة المسار واندثار مقاصد التكليف؟أيكون ممكنا الجمع والتوفيق بين الاجتهاد والعلمانية؟

   هكذا تثير الصلة بين الإسلام والحداثة المفارقات والانزياحات،كما تثير شغبا عارما بين إنسانية التكليف وإنسانية التعقيل،مما يستوجب ضرورة إجراء مقارنة بين مفهومي التكليف والتعقيل؛خاصة أن المسلم ينقاد في مساره الوجودي حسب كليات تبليغية تناط بالعقيدة،وكليات تكليفية تناط بالشريعة.

    والحق أن حمولة التأصيل،ومساره التاريخي في الفكر الإسلامي؛تبدو ثقيلة ومعقدة ،إذا ما تم تعريضها على النقد بوصفه بداية كل تحديث،على سبيل النقدية الكانطية،بوصفها فلسفة الحداثة[vi].لقد خلصت النقدية الكانطية إلى تثبيت رشد جامع بين الحرية وعقل منفك عن كل يقين قبلي،إلا اليقين الذاتي للعقل،درءا لكل سلطة تجعل من الإنسان رهينة وعي القطيع،بمعنى تحت توجيه سلطة المؤسسات وخاصة المؤسسة الدينية.ولاستكمال البعد الحداثي للإنسان،فصل كانط بين الأبعاد الإنسانية،فلا صلة بين المتعالي،الطبيعي والأخلاقي،فهل يمكن الفصل في الإسلام بين القول والفعل،بين الطبيعة والأخلاق،بين المتعالي والإنسان؟ في حين يشير مفهوم الأمانة،إلى تضمين عميق لهذه الأبعاد.

    تلك هي إذن معضلة وأزمة،في مدار التقابل بين الاجتهاد والحداثة ترد على المدونة الأركونية سؤالا جذريا؛تدفع إلى تحليل مفهومي حسب السياقات التاريخية لكل منهما،ثم تتجه إلى تحقيق مناطهما،خاصة في زمان الحداثة الفائقة والسائلة[vii]؛وما طرحته حضارة العقل من تناقضات،وما حصلته من نتائج سلبية على صعيد الإنسان والبيئة،أحدث هزات عَرَّفَتْ بطبيعة هذه الحضارة،وخلاصات التحديث وما انتجه من هزائم على جميع الأصعدة،وآخرها قتل البيئة وتشيؤ الإنسان وتحوله إلى جهاز استهلاك فائق.

    تتبين معالم أزمة الفكر الإسلامي،عميقة في فكر محمد أركون؛ذلك أن التشخيص الأركوني لمسار الوعي الإسلامي وتجلياته،تحدد خصائص تتلخص في الانسداد و الانغلاق ثم الانحدار وفي النهاية موت الفعالية،وهذا بالنظر إلى تراكم  وحداته،دون حدوث عملية نقد عقلاني،كما جرت وتجري في الغرب،بثا للحياة وإعادة له إلى الفعالية.وتحقيقا لمثل هذه الغايات،من الواجب فتح اجتهاد آخر في الفكر الإسلامي؛يحدد سبيله محمد أركون،بدأ من نقد أصوله،قرآنا وسنة،إثباتا لتاريخية هذه الأصول،وتحصيلا لاستحالة الأصول.وتعد هذه المداخل مسارا على سبيل الإسلاميات التطبيقية التي تعني موت الاجتهاد التقليدي،وبداية الانفتاح على العقل الاستطلاعي،الذي يساوي بين النقد والتجاوز من جهة والاجتهاد من جهة أخرى.

    ففي البدإ تكون الوحدات المرجعية للفكر الإسلامي،ونعني به الوحي الذي تجلى في المصحف أحد أكبر المعضلات التي يجب النظر فيها للتحقق من إطارها المرجعي،ويعد السؤال عن تاريخية القرآن منطلقا يؤسس مهمة كبرى يطمح إلى أدائها محمد أركون،وذلك على سبيل تحقيق حداثة هذا الفكر.فما على العقل الإسلامي إذا أراد إعادة تدوير مفاهيميه،إلا أن يبادر إلى تفكيك أركيولوجي وجنيالوجي للقرآن؛بوصفه وثيقة تاريخية،انطلاقا من تطبيق آليات الفكر الحديث،وممارساته النقدية على نصه المقدس،والخروج من الوضع اللاهوتي إلى الفكر العلمي المنفتح[viii].

   التحقق بتاريخية الوحي وتعريضه على المناهج التفكيكية للعلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية،يحصل انشطارا في طبيعة الفكر الإسلامي،بل في الوعي بالذات؛ما يعني نهاية التكليف كمفهوم مركزي عند الذات المسلمة،إذ تنتهي المدونة الأركونية إلى خلاصة،تقطع باستحالة التأصيل وفناء الأصول لاستحالة،وجود عقل خارج التاريخ؛وهنا تنبلج المعضلة فيما يخص الاجتهاد.إذ تتفكك سلطة التكليف،بمجرد اعتبار الأصول نصوص تاريخية،وانبثاق إنساني بما أنها خطاب نبوي بمعنى بشري.وسيتحدث أركون عن ماهية هذا الخطاب بقوله: "وكنت قد بينت في عدد من الدراسات السابقة مفهوم           " الخطاب النبوي" يُطلق على النصوص المجموعة في كتب العهد القديم(أي :La Bible) والأناجيل،والقرآن،كمفهوم يشير إلى البنية اللغوية والسيميائية للنصوص،لا إلى تعريفات وتأويلات لاهوتية عقائدية"[ix].فإلى أي مدى  يمكن اعتبار القرآن مجرد نص كغيره من النصوص؟ هل من اليسير انتزاع الصبغة اللاهوتية والعقدية عن القرآن؟

  من الجلي أن النظر التعميمي الأركوني للنصوص المقدسة،دون تحقيق مناطها بنية عقدية ومقاصد نهائية،يجعل العملية عسيرة وبدون جدوى.ثم أن السؤال عن وظيفة الخطاب الديني،يكون مفصليا في مدار ما يصطلح عليه أركون أنثروبولوجيا الظاهرة الدينية،فما هي غايات تفكيك النصوص المقدسة،خاصة أن مقاصد الدين هي الترشيد وليس التفسير والسيطرة سلطة،بوصفهما كنه العلم الحديث ؟أضف إلى أن عصر الأنوار بأبعاده النقدية؛قد فصل بين الواقع والقيمة،وجعلهما يفترقان،فهل يتم تحصيل نتائج محققة من الناحيتين الفكرية والعملية، إذا تم تطبيق عقلانية العلم على عقلانية الدين؟ ألا تكون الوظيفتان ومنفصلتين جذريا،بحيث كل له مهامه التي يناط بها.

   يتجه محمد أركون وجهة خاصة ومميزة في تاريخ الأفكار،ليكون حقل ممارساته هو الفكر العربي الإسلامي،وغايته هو فتح باب الإجتهاد في هذا الفكر،نقدا ثم تجديدا للعقل،وفتحا لمسارات الإبداع في هذا الفكر،بعدما ولج درب الانغلاق والدغمائية،وسلك سبلا لاهوتية أوصدت مصاريع الوعي الحر،المنفتح على المبادرة الإنسانية الحرة،التي سبق أن انفتحت- حسب أركون -في أدبيات القرن الرابع الهجري[x]،إذ ذاك تكون أنسنة هذا الفكر أمرا ملحا،نيلا لمكتسبات الحداثة المادية والمعنوية؛فما هي طبيعة هذه المبادرة الإنسانية؟ماذا عن نهايات الأنسنة المجردة،وأثرها على الإنسان والطبيعة؟

  وإذن  لن يكون فتح باب الاجتهاد في الفكر العربي الإسلامي،إلا بعبور الهاوية بصبغتها النتشوية الفوكوية،إنه تفكيك جنيالوجي وأركيولوجي،لبنية المعرفة في هذا الفكر،بدأ من ثوابته الأولى ،ونعني به الوحي بوصفه المنطلق المؤسس لهذه المعرفة،هنا فقط يبدأ الاجتهاد الذي تمكن منه الإسلاميات التطبيقية.أما عن شرط هذا الاجتهاد،فهو قبلا تفكيك الأصول والاعتراف باستحالة التأصيل،وبداية انفتاح العقل على الآفاق اللامتوقعة،وتعويض الله بالإنسان على درب الأنسنة كشرط أولي للولوج إلى الحداثة.

  من جهة أخرى تكون المساءلة جنيالوجية وأركيولوجية،للأنموذج الأركوني ضرورية،لما له من تأثير على وجهة الفكر العربي الإسلامي.لقد أحدثت الأركونية انزياحات معرفية،ضاربة في عمق النقاش الفكري الجاري في هذا الفكر.فهل أجرى أركون إنقلابا للمفاهيم في الفكر العربي الإسلامي المعاصر،دون اثبات تاريخيتها وبنيتها السيميائية،المنزاحة صوب هذا الفكر؟ماذا يعني الاجتهاد فكا لأصول الإجتهاد،بالنظر لاستحالة الأصول؟أتكون وجهة الاجتهاد الأركوني المفترض هي هدم الاجتهاد،تأسيسا لما بعد الدين وما بعد الاجتهاد؟ ماذا يعني الاجتهاد الحر إنطلاقا من التسليم بالإطار العام للحداثة المؤسسة على هدم الأصول؟إلى أي مدى يصمد الفكر الإسلامي،إذا ما تم اقحامه في الأنموذج الغربي؟ماهي جدارة المناهج الحديثة ومرجعياتها المعرفية،لفتح سبيل حداثي منفتح على العقل الاستطلاعي،في بناء اجتهاد يعيد وصل العقل الإسلامي بخطة الحداثة ومساراتها؟ خاصة أن الحداثة والإسلام أنموذجان متقابلان أنطولوجيا بصفة جذرية،" وهو ما يعني أن الرؤية الكونية القرآنية ليست عميقة في توجهها الأخلاقي فحسب،بل هي مصنوعة من نسيج أخلاقي في شكلها ومحتواها على السواء"[xi]،أما الحداثة فتشترط في البدإ الانفصال عن الأخلاق لتغوص،في غياهب الطبيعة البشرية،مستمدة تشريعاتها الأخلاقية منها،لذلك نشرت هذه الحداثة حسب زيغمونت بومان القتل ،التشرد والدمار،وأهم مظهر عولمي لها اليوم،هم المهاجرين إلى موطنها عبر قوارب الموت،[xii].ةإذن فهناك سؤال وألف سؤال عن حضارة هذا هو دأبها[xiii].

أولا –نهاية الاجتهاد - تاريخية العقل الإسلامي وتفكيك الأصول-:تتحدد غاية المشروع الفكري الأركوني في" إحياء الاجتهاد في الفكر الإسلامي المعاصر[...]وكما أن الشافعي ألف رسالته المشهورة،ليقترح وسائل جديدة للاجتهاد[...] فكذلك يضطر الفكر الإسلامي اليوم،إلى إعادة التفكير والكتابة في مسائل الاجتهاد،وكل ما يتعلق به بنقد المعرفة وأصولها"[xiv].هنا يفترق السبيل بين مفهومين للاجتهاد:

  • اجتهاد كلاسيكي موروث،في فحصه تتعين غايته،في رأب صدوع الواقع عبرالأصول،تسييرا لهذا الواقع المحاط بالمفسدة والمصلحة في إطار مقاصد الأصول.استحدث هذا الاجتهاد آليات الربط بين الواقعة وحكمها،ضمن حقل إسلامي خالص متفرد،وهو علم أصول الفقه.ذلك أن الإسلام يعني التكليف باداء مهام الصلاح،المبين في هذه الأصول عبر جملة نواهي وأوامر تحفظ الإنسان حتى من نفسه عندما تحل فيها مفسدة الهوى.

كما وأن الرؤية المرجعية للفضاء الإسلامي،تركز على ضعف الإنسان،وضآلة قدرته في الإحاطة بعوالم لا يدركها،فهو من ثمة بحاجة إلى تعميق الصلة بالله،مستوفيا معالم شهادته الاعترافية.قل أن الغاية من علم أصول الفقه،هي جمع الواقعة بمعيار يسيرها،حتى لاتتنافى مع القيمة الأخلاقية العليا في القرآن،وهي صلاح الإنسان في الدنيا والآخرة.إن مثل هذا الربط بين الواقعة والمعيار،تتم  عبر أدوات منهجية دأب علماء الأصول على بنائها وشحذها.ويعرف الغزالي الاجتهاد بقوله:"صار اللفظ في عرف العلماء،مخصوصا ببذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة"[xv]،وهو عند الشاطبي موصول بالتكليف،ولن ينقطع إلا بانقطاعه.لذلك تفرض تكاليف الشريعة الاجتهاد ضرورة،في كل الأوطان والأزمان التي يحضر فيها الإسلام.[xvi]

     أما مفهوم الاجتهاد الذي يعمل أركون على فتحه،فينطلق من مقدمة نقدية،تستثمر أدوات علمية حديثة بل شديدة الحداثة؛لتدخل في عملية تفكيك للأصول عبر،تطبيق منهجي لأدوات علوم الإنسان والمجتمع،وما يرتبط بها من تحليل فلسفي وتاريخي،يسائل النصوص الأصل،ويقوم بعملية نقدية تتجه نحو الحفر والتفكيك.هو مسار يتقفى الشك العقلي والفحص المنهجي،وتفكيك الأصول بغية فهم مغاير للفهم الكلاسيكي،وهذا عبر منطق يدعي:" أن العقل الاستطلاعي الجديد ،يكافح على جميع الجهات؛إنه لا ينحاز للغرب أو للشرق،إلى الدين أو الدنيا،إلى سياسة شرعية لا هوتية أو فلسفة إيجابوية علماوية.بل إنه ينتهي إلى مذهب الاتهام الفلسفي المنهاجي البناء"[xvii].وهو منهج تقصي الأفكار،وتطبيق الفحص النقدي.ما يجعل الدعوة الأركونية دعوة استكشافية،تخلص إلى اعتبار المكون التاريخي أصل المقدمات التي تنطلق منها مصادر التشريع الإسلامي،وكذا منطق علم أصول الفقه في وجهته التأصيلية.وتتجه إلى تثبيت الحرية المنفصلة عن التكليف كحق إنساني ساقته الحداثة عبرصيرورتها النقدية.فكيف نؤلف بين التكليف والحرية المجاوزة،المفروضة من قبل الحداثة؟

 وعلى الرغم من المقصد العلمي البحت المقدم من قبل أركون،فسيبقى المكون الأصلي لهذا العقل الاستطلاعي،مكون تاريخي لا ينفصل عن تاريخ الأفكار في الغرب،ويتطلب تفسيرا وفهما؛وهذا فيما يخص طبيعة الإنسان الذي انفصل عن الإله وأماته،ثم إداعاءه القوة المفرطة والحرية المطلقة،المحاطة بفضاء العدمية ،التي انتهت بتعبير أركون إلى الإقرار،بأنه" في نظام الحداثة لا توجد إلا حياة واحدة هي التي نعيشها،وبالتالي فالموت يشكل قطيعة عدمية ونهائية،لأنه لا توجد حياة بعد الموت"[xviii].الأمر الذي جعل الحياة الإنسانية مجرد تدوير للغرائز،يقوم عبرها الإنسان بصناعة الشيء وتحطيمه بعد حين،ليعود مرة أخرى لصناعته وهكذا... بما أنه يحي في صميمه تجربة سيزيف متمثلة في لاجدوى يرهقه.فهل بقي من حديث عن أصول تأسيسية معيارية للسلوك الإنساني،في فضاء حداثي وحداثي ما بعدي،إنطلاقا من الأصول؟

    تمد هذه الصورة التقابلية بين مفهومين للاجتهاد:من جهة الاجتهاد الذي يقدم ببداهة اليقين في الأصول،واستحداث التأصيل إحاطة بالحياة الإسلامية توجيها لها،حسب معايير مرسومة،تتبين في مرجعية العقيدة التي تؤلف فضاء ميتافزيقيا،وفي توجيهية الشريعة التي تعد قانونا أخلاقيا،يرعى الحياة الإنسانية سيرا حسب مقصد الصلاح المنصوص.

  من جهة أخرى تفرض الحداثة،اللايقين في الأصول؛فلا وجود وفق الكوجيتو لعقل خارج التاريخ،بالنظر إلى تاريخية المعرفة والتشكلات الابستيمية لطبقات الوعي،وخلاصة ذلك هو استحالة التأصيل،إذ "إن العقل المنبثق حديثا كلما حاول أن يؤصل نظرية أو تأويلا أو حكما، يكشف أن الأصول المؤصلة تحيل في الواقع إلى مقدمات ومسلمات تتطلب بدورها التأصيل.ثم نكتشف تاريخية كل تأصيل،"[xix]؛ما يؤدي إلى انفتاح هذه الحياة على الممكنات الإنسانية الحديثة،وما تتضمنه من آفاق ما بعد حداثية،أو بالمصطلح الأركوني العقل الاستطلاعي.فكيف نرأب الصدع بين العمل التأصيلي الذي تؤديه عملية الاجتهاد من جهة،وعمل الحداثة التجاوزي والتفكيكي،الذي يسعى حثيثا لتفكيك الأصول من جهة أخرى؟ وهذا عبر عملية تجاوزية تنفي التقليد والأصل،حتى إذا ما أُثْبِتتْ صلاحيته الإنسانية المنفصلة عن الماراء.[xx]

   بين هاتين الصورتين،ترتسم المغايرة بين أنموذجين مختلفين،أنموذج الإنسانية المسنودة على التكليف،والأخرى المسنودة على المبادرة الحرة التي لاتعترف بالتكليف،فانتهت إلى إحداث ثقب أسود في الوجود،مثال عن هذا الثقب،الكولونيالية وما جرته من تقسيم لعالم الإنسان الحديث والمعاصر،إلى أسياد و عبيد عبر منطق هيغلي متعالي،فحصلت إماتة الإنسان،ثم فضاعات الحروب الكونية التي نسجت زمان القرن العشرين،وكذا موت البيئة والإنسان،كعلامة على لا جدوى التعقيل المفرط،ثم شراسة الاقتصاد النيولليبرالي الذي أضرم الحرب في كل مكان.

  سينطلق أركون من بنية الأنموذج الثاني،ليكون مسارا نقديا للإنموذج الأول.لكن إلى أي مدى يتفق التكليف،بوصفه نواة مركزية في الاجتهاد، مع الحرية المسربة عبر العقل الاستطلاعي ،الذي يؤكد دروب لأوصاف من الحداثات السائلة والفائقة وهلم جرا؟كيف يمكن التوفيق بين الالتزام بالتكليف والحرية،التي تعني هدم الأصول المثبتة للتكليف،وتحطيم ما يبدو بالنسبة لها حاجزا اكمالا لسعادتها ؟الأمر الذي يدعو إلى المساءلة عن الاجتهاد،كمقترح أركوني،دخولا في الحداثة ونيلا لمكتسباتها.

   ينفتح التضمين المفهومي للاجتهاد عند إدريس الشافعي من جهة،والاجتهاد عند محمد أركون من جهة أخرى على دروب وعرة تفرض بيان ركائز ومقاصد كل من هما؛وكذا انبعاث الأسئلة المنهجية والأداتية،حول مفهوم الاجتهاد في الإسلام أدواته وغاياته.ويبدو أن الفرق بينهما ،يتسع اتساعا كبيرا محددا لبون شاسع بينهما ،بالنظر إلى المرجعيات المتمايزة والمناهج المختلفة،وقصود الاجتهاد عند كل منهما.ثم في الأخير افتقاد المدونة الأركونية للصياغة المنهجية للاجتهاد البديل،في حين ركز الاجتهاد منذ البدأ على ترقية فلسفة الأخلاق والقانون في الشريعة الإسلامية،ممدا بأدوات الوصل بين الأصل، الفعل ثم المقصد.فقد أرست الشريعة نظاما أخلاقيا،لايخدم طبقة بعينها،بل هو تجلي لفكرة خدمة المجتمع دون تمييز،نظرا لفوقية القانون الموضوعي الذي أنزل الشريعة[xxi].

   في حين سيعتبر محمد أركون،أن المعرفة التي انتجها وسينتجها خط الشافعي؛هي معرفة كلاسيكية أرثودوكسية،ذات طابع  قروسطاوي،غايتها وصل الحركة التاريخية،بنقاط ثابتة وجوهرانية لا تتغير؛ما أدى إلى الانغلاق وافتقاد بدائل تجديد الفكر؛وعليه فالمهمة الأركونية تكمن في تطبيق نمطي للإبستيمي الغربي،بوصفه السبيل القمين لاحياء العقل الإسلامي.فإلى أي مدى ينجح المنهج النقدي ذو الحمولة التاريخية الغربية،في إعادة فتح الفكر الإسلامي على العقل الاستطلاعي الحديث؟ ثم هل هناك صورة واحدة لحداثة نمطية هي الحداثة الغربية؟ألا يفسح منطق الاختلاف لمبادرة سجال إنساني حول حداثات بديلة اعترافية،وليست طاغية ومهيمنة؟

1 –النقدية الأركونية وفتح سجل اللامفكر فيه والمستحيل التفكير فيه أو نهاية الأصول العقدية:تتحلق المدونة الأركونية حول نواة مؤسسة،تتكرر دائما في ثنايا هذه المدونة،وهي تأسيس "تاريخ منفتح وتطبيقي للفكر الإسلامي،أقصد أنه منفتح على كل تجليات هذا الفكر،[...] منفتح بنفس الدرجة على علوم الإنسان والمجتمع ،ومناهجها وتساؤلاتها[...] وهوأيضا تاريخ تطبيقي عملي،في نفس حركة البحث ذاتها،يهدف إلى تلبية حاجيات وآمال الفكر الإسلامي المعاصر،وسد نواقصه منذ أن كان قد اضطر لمواجهة الحداثة المادية والعقلية"[xxii].بهذا تختصر المهمة الأركونية،في إعادة صياغة للفكر الإسلامي المعاصر،بوسيلة النقد الذي تخوله الأدوات المعرفية والمنهجية للعلوم الإنسانية والاجتماعية،تجديدا له وانفتاحا متطلعا على أفق الحداثة.لكن ما هي مرجعيات هذا الانفتاح وآفاقه؟ما هي أدوات النقد المعتمدة بناء لتاريخ منفتح وتطبيقي للفكر الإسلامي؟

  لكن تبدو المهمة عويصة وصعبة المنال،بالنظر إلى قرون الانغلاق الذي شهدها هذا الفكر،حيث تمت صياغة المدونات العقدية،المؤسسة على يقينيات منجزة،أما القرآن فقد مثل مقدس يتجاوز إطار كل مساءلة،ناهيك عن المساءلة النقدية التي تتكفل بأدائها الأدوات الحديثة.

  ويبدو أن صياغة هذه الأطر الجاهزة للمدونات المغلقة،يؤول في أصله إلى ميكانيزمات تاريخية شديدة الصلة بجدل السيادات السياسية والسلطة العليا،ومن هنا ينتقل محمد أركون نحو معرفة هذه الميكانيزمات والسبل التي سلكتها،فكا لعقد هذا الفكر وتحريرا له من المنجز التاريخي،الذي أغلقه ومنع عنه الإنفتاح والتغير،فما هي الوسيلة إلى ذلك؟

  تنطلق المهمة الأركونية من نقطة رئيسة،وهي فتح سجل اللامفكر فيه والمستحيل التفكير فيه في الفكر العربي الإسلامي وقد أوصد أبوابه،دون المساءلة التاريخية والحفر الأركيولوجي الجنيالوجي،مراكما لقطعيات رئيسة تمنعه دون أداء هذه المساءلة،التي تعني طرح السؤال في مستويات استحالة السؤال؛تلك هي النقطة الأولى التي يجب أن ينطلق منها تحرير الوعي الإسلامي،وفتح الدروب نحو الغاية التي يناط بها الفكر الإسلامي،وقد واجه الحداثة المادية والعقلية،بعدما سد منافذها الاغلاق على وعي المدونة المنجزة.فماهو سجل اللامفكر فيه والمستحيل التفكير فيه،الذي يؤلف بداية المحاورة الكبرى،التي يجب أن ينجزها هذا العقل مع تاريخه وواقعه المتميز بالتراجع والتردي؟

   يعد فتح سجل اللامفكر فيه والمستحيل التفكير فيه،مهمة جسورة وخطيرة،تم أداؤها على مستوى الوعي الغربي منذ سؤال الكوجيتو،وهي عينها التي خولت لهذا الوعي،الإمكانات الكبرى التي أوصلته إلى الحداثة.ويعود فتح مثل هذه المساحة المراقبة،إلى جهوزية العقل لتجاوز أعتاب القطعيات،والأنساق المغلقة المسؤولة عن ثبات الوعي وفقدانه الديناميكية.فلا مناص إذن من عبور الهاوية،وطرح المساءلة فيما ظنه العقل الإسلامي حقيقة ميتافزيقية،لا يمكن كسرها وتخطيها.فمن فرط الانغلاق على الحقائق المنجزة،أصبح من غير الممكن تصور الحقيقة إلا بوصفها حقيقة واحدة،وهي الحقيقة الإسلامية،التي تعد خطا مستقيما كامل الجهوزية،يتحرك عموديا في حين أن وحداته قد ركبت بفعل جدل التاريخ تركيبا أفقيا،وعلى سبيل المثال يتجلى هذا في مفهوم الأمة الناجية،بوصفها خير أمة اخرجت للناس.

    إذن سيضطر العقل الإسلامي وهو يواجه الحداثة،إلى اجتياز عتبة الأسئلة الخطيرة،التي سألها الوعي الغربي،في بواكر نهضته،بحيث ساقت إليه حداثته.وأداء لهذه المهمة،لم يتوقف محمد أركون كما هو حال الجابري وحسن حنفي،عند التراث الأصولي استفهاما وتحريرا،بل ستكون المهمة الأركونية، أكثر جسارة وهي التجاوز نحو أصل الأصول القرآن كنص من نصوص التراث،ومن ثمة المساءلة عن إلهية القرآن التي تعد حقا،"أحد المواضيع الإستراتيجية والأساسية التي ينبغي الاهتمام بها من أجل تأسيس فكر مبدع وخلاق في مفهوم الدين ودلالته ومعناه"[xxiii]،من هنا بالذات تنطلق، أسئلة المشروعية الخاصة بالاجتهاد نيلا لمكتسبات الحداثة،وسيكون القرآن كالتوراة والإنجيل حقلا للممارسة النقدية،حفرا أركيولوجيا وتحليلا جينيالوجيا،بواسطة القراءة الألسنية ،فلسفة المعنى وسميائية النصوص،وغيرها من أدوات فك منطق الحقيقة المنجزة بل وتفجيرها.

 والحق أن المطلب الأركوني المنوط بالانفتاح،وانشاء تاريخ آخر للمعرفة في الإسلام،يقتضي اطلاق المبادرة والتساؤل الحر،حول الحقائق الجوهرانية التي سدت منافذ التفكير،وعلى رأسها القرآن الذي شكل لدى المسلمين كما هي الكتب المقدسة علامة فوقية متعالية لا تطيق السؤال،بل هو سؤال مستحيل،لما يؤديه من خلخلة للأطر اليقنية المنغرزة في عمق الوجود الهووي للمسلمين،وهي مبادرة أركونية لفتح سجل اللامفكر فيه والمستحيل التفكير فيه على مصرعيه،كما وأنها عملية جسورة لم تكن لترد البتة في الفكر الإسلامي،لولا أسئلة الحداثة المحرجة.لذلك عزم محمد أركون على طرح أسئلة عن تاريخية القرآن بما يخزنه نص بحجم القرآن،وهي عملية في غاية الحساسية والخطورة،بما أن القرآن يعبر عن حمولة ضخمة تجمع بين خزان الوجود وخزان القيم،وتمد الوعي الإسلامي بطبيعة وجوده.   

   سيركز أركون في قراءته التاريخية للقرآن،على الإنطلاقة الأولى لبنية الوعي الإسلامي،لكي تكون بداية النظر في التشكل الاستراتيجي الذي شهده هذا الوعي،ونعني بها اللحظة التدشينية النبوية لتؤلف نواة التحليل التاريخي،عبر العقل المنفتح على منجزات علوم الإنسان وأدواتها النقدية،فتطرح الأسئلة السيكوسوسيولوجية،وتفتح المبادرة على وعي البنى التاريخية لتشكل الخطاب النبوي،وما يحمله من مضامين إكراهية لها صلة بمفهوم النجاة في الآخرة.

 والحق أن المنطلق الأركوني يعد منطلقا جسورا،بما أنه سيناقش بكل شجاعة العلاقة بين الفكر واللغة والتاريخ[xxiv]؛ في صياغتها للنص القرآني،وأولوية التحقق من المنطوق القرآني عبر أدواة علم الإنسان والمجتمع،التي قدمت كشوف لا تقل قيمة عن الكشوف التي قدمتها العلوم الطبيعية.وتبدو هذه المساءلة الأركونية في مستوى غير مسبوق بالنسبة للوعي الإسلامي الذي بقي سجين اليقين والقطعيات النمطية،فلم يعمل البتة على مصارحة الذات،ومن ثمة تم استغلاله من طرف السيادات السياسية المتعاقبة،وصولا إلى الأيديولوجيات الوطنية التي ظهرت بعد انفصال المجتمعات الإسلامية عن الكولونيالية،حيث تم خلط السيادة العليا مع الأيديولوجيات الحديثة وعلى رأسها الماركسية،وتكوين دولة هجينة مزجت بين أفكار متنافرة،أي بين الطبيعة العلمانية للدولة الحديثة والاعتراف بفوقية الدين.

  تعد الخطوة الأركونية غير مسبوقة،في تجاوزها إلى مساحة اللامفكر فيه في الوعي الإسلامي،بما أرسته من خيارات جد ملفتة،وهو ما يصرح به أركون قائلا:"إني إذ أتخذ القرآن وتجربة المدينة كنقطة إنطلاق،لا أريد أبدا الانصياع لهيمنة أسطورة العصر التدشيني أو الافتتاحي"[xxv].بهذا تكون مساءلة الأصول مساءلة نقدية وخلخلتها تفكيكا،تلك هي المساحة التي أراد أركون الحفر فيها عبر وعي أداتي نشيط وفعال،تم من خلالها النظر النقدي إلى النص المقدس التواراة والإنجيل ليكون القرآن مجالا تطبيقا لمنهجية الأنثروبولوجية التطبيقية.

هذه القراءة النقدية ثم التفكيكية للأصول،هي خطوة مرساة على سبيل الانفتاح على العقل الاستطلاعي الذي يصبو إليه المشروع الأركوني،سلم من خلالها محمد أركون بالخطوات التاريخية التي قدمتها العقلانية الغربية،تجاوزا للنص الديني،وتثبيتا لأدوات العقلانية التي يرى فيها استقلالية محققة،من قبل العقل الحر المجاوز لكل علاقات وصال تؤثر عليه،في عملية الفحص والنقد لمسارات الحقيقة.

  عند الحفر في أركيولوجيا المشروع الفكري لمحمد أركون،نلمح بكل جلاء ثنائية متناسقة،هي ثنائية المرجع والغاية.أما المرجع فيقوم على التسليم بالمنجز المرجعي والأداتي الغربي،أما الغاية فهي انفتاح العقل الإسلامي على منجزات الحداثة،دون التحقق من طبيعتها وآثارها على الطبيعة والإنسان،هذه الآثار التي ُوضِحَتْ نقدا،وبكل جلاء من قبل الإتجاهات النقدية الحداثية ومابعد الحداثية.

   لقد حصلت الحداثة وضعا إنسانيا كرس ظرفا أكسيولوجيا،انبنى على فوقية الطبيعة البشرية،وتسيير منظومة القيم خدمة لهذه الطبيعة،دون تعريضها للمساءلة الأخلاقية؛انطلاقا من هذه النقطة يجب النظر في قيمة الاجتهاد في الفكر الإسلامي،بوصفه حقلا يمكن من الكشف المستمر عن آليات إنتاج القيم والمعايير أي المعنى،إنطلاقا من النص المؤسس،وهي العملية التي تبدو مناقضة للحداثة بوصفها عملية مستمرة للهدم والتجاوز،وإعلاء للإنسان وسيادة قوته.

  وهكذا تكون العلاقة بين الحداثة والاجتهاد علاقة متناقضة وقلقة،تتطلب نظر في المرجعيات والأدوات والمآلات بوجه عام؛الأمر الذي يثير مساءلات عميقة،حول المدونة الأركونية ومفهومها عن الإجتهاد؛ثم البدائل التي قدمتها نيلا لانفتاح العقل الإسلامي على منجزات الحداثة،بوصفها المقصد الأسنى الذي يجب أن يحصله العقل الإسلامي.

2- أنثروبولوجيا الوحي-تاريخية القرآن ونهاية أصول الدين وأصول الفقه- :تعد المساءلة النقدية والتاريخية للمقدس،أحد المفاهيم الفاصلة التي انجزتها الحداثة،وهذا عبر مخاضاتها المتواصلة ؛نيلا للحلقة المتكررة في الحداثة وهي التجاوز نحو التقدم.ما معنى التجاوز في هذه الحالة التاريخية الكبرى للحضارة الغربية؟

   هو حالة من الهدم والبناء،ثم تدوير العملية حسب الوصف الفينومينولوجي للوجود السارتري،أي الانتقال من الوجود إلى العدم إلى حد التخمة المحصلة للفراغ،أما صلة التجاوز بالحرية كمكسب حداثي فهي صلة صميمية،بما أن الذات فقدت أسانيد وجودها،ومن ثمة ركزت على الحرية بوصفها وسيلة التجديد الدائم،لعملية الجدل الكبرى بين الوجود والعدم،وكذا الحرية كآلية ضرورية في سبيل التقدم،بوصفه المنجز الأساس الذي تسعى في سبيله الحداثة.في هذا الإطار العام كان نقد المقدس كنقطة محورية على درب الهدي إلى غائية التقدم،المنفتحة على الممكانات الإنسانية حتى وإن جلبت الضرر لها وللطبيعة التي تحيا في كنفها[xxvi].

    يجب التذكير،بأن مهمة نقد النص المقدس،هي مهمة عميقة في التاريخ الغربي،لما لها من وصال بوضعية الكتاب المقدس في حد ذاته،كوثيقة تاريخية يتم التدخل فيها مرارا وتكرارا من قبل رجال المقدس[xxvii]،مع افتقادها للغة الأصلية خاصة في المسيحية؛فالمسيح كان يتكلم الآرامية،إلا أن الأناجيل العديدة قد كتبت باليونانية،وهي النقطة الأولى التي قطعت الصلة مع الينبوع الأول للفيض الإلهي المقدس.كما يجب التذكير أيضا بوضعية الكنيسة،كمؤسسة دينية لها سلطتها وأثرها التوجهي، ليس على الأفراد فقط إنما على الاستراتيجية السياسية للدول،وعلى روح الخيارات الدينية الأوروبية،المبررة للظلم والقهر.

  كانت ثورة العقل،ثورة على سلطة الإكليروس،الذي مثل بالنسبة لأوروبا شرعية ميتافزيقية،ومن خلفها شرعية دنيوية تتصرف في ملكوت الله،غفرانا للخطايا،وتثبيتا لسلطة إنسانية فوقية.إنه الدور السلبي الذي أدته الكنيسة عبر رجالها تطويعا للإنسان الغربي.والحاصل أن لقاء تاريخية الكتابة المقدسة[xxviii]،مع تاريخية النظام الديني الإكلروسي، كانت قد فرضت ضرورة منطقية،الثورة على المقدس وعلى كتبه المشرعنة للهيمنة،وفرضت تجاوزا علمانيا،يعتبر أن مثل هذه الهيمنة،تقتل الإنساني وتردم حقوقه في سبيل حقوق المؤسسة الدينية.

   إن الهزة التي أحدثتها النهضة الأوروبية،بفعل العمل الحفري والنقدي الذي أداه الإنسانيون،وكذا بفعل الكشوف العلمية المحققة،جعلت المقدس في وضع حرج؛وإذ ذاك اتجهت مساءلته،إلى حد الكشف عن مصدره الإنساني وتاريخيته البينة والواضحة[xxix].من هذا الباب باشر رجال الإصلاح الديني،مهمة الإصلاح للمخزون العقدي،وأمدوا بمذاهب دينية بديلة عن المذاهب الكلاسيكية،ونعني بها الثورة اللوثرية والكالفينية.

  لكن يبدو أن مذهب العقل كان أكثر فعالية ونشاط،لذلك ألفت حملة تفكيك النص مرحلة قطيعة محققة مع المقدس؛وهنا قام العقل الغربي بعملية تعويض كبرى،تم فيها مسح النقل وتأليه العقل،كما انزاح الإله الإنسان من موقعه المركزي، ليبقى الإنسان ويموت الإله.

 وعموما تلك هي الاستراتيجية التاريخية، التي قادت إلى قراءة نقدية تفكيكية،للمقدس في التاريخ الغربي،وأمدت بشرعية التجاوز من اللاهوت إلى الناسوت؛وهي عملية تبادل راجحة جدا.بما أن يسوع المعبود يمثل تمفصلا بينهما،كما وأنه إله يحمل صورة الموت في لحمه ودمه.فهل من غرابة أمام صيحة نتشه بأن الإله قد مات؟فقد مات منذ التأسيس الأول لشخصية يسوع على أنه إله ميت.

كانت عملية الإنزياحات التي أداها إنسانيو عصر النهضة،عملية مركزية بالنسبة لفلاسفة الأنوار،فقد عملوا على هدم المقدس وإزالة السلطة المحكمة رجال الكنيسة،وكما هو ملاحظ فالتصور الإجمالي لهذه العملية،يمتد بجذوره إلى طبيعة المقدس اليهودي المسيحي،وإلى استراتيجية دينية خاصة تمثلت في أنموذج المسيحية التي تأورمت،فكان التثليث فكرة دينية وثنية ثاوية في المخيال الديني القديم،إنما تم تشكيله وفق الأنموذج الجديد،أما جهازالإكليروس فقد عوض منظومة الكهانة التي تتبع معابد الآلهة في روما القديمة.

 استقى محمد أكون مرجعية القراءة التاريخية للقرآن،من هذا المخيال الأنموذجي للعقل الغربي الحديث،كما وتبنى خطط الهدم التي يجب أداؤها في سبيل بيان طبيعة القرآن،بوصفه خطابا نبويا،بمعنى أنه قول شفهي قاله النبي،وهو مفهوم فاصل في القراءات التاريخية للكتاب المقدس في الثقافة الغربية.لكن البيان المنهجي المكرس لهذه القراءة والغاية منها،يبقى مفصليا في مشروع محمد أركون،ذلك أنه سيوضح بكل جلاء،إذا ما كان سينطلق الفكر الإسلامي،إنطلاقة جديدة منفتحة على الآفاق المغايرة كسبا للحداثة؟أم أنها مرحلة أخرى من الموت والانضواء تقليدا في المخيال الحداثي؟فما هي الآليات المنهجية التي سعى محمد أركون إلى تطبيقها على القرآن،ليكون وثيقة تاريخية،تنتمي إلى العصر التدشيني الذي يتناسق بالنسبة له تناسقا معياريا مع عصر المسيح والحواريين؟ماهي الغاية والمقصد من خلخلة القرآن وتشكله الإنساني والتاريخي؟فهل تنجز إنطلاقة جديدة للفكر الإسلامي بعدما يصبح القرآن نصا تاريخيا ومعطى إنسانيا؟

  لقد نحى أركون منحى الحداثة في قراءاتها التفكيكية، لكل المدونات التي تدعي الصدق وبيان الحقيقة المطلقة،فهل يمكن تبعا لهذا التسليم بلاتاريخية النصوص الكونية في التاريخ الإسلامي،وعلى رأسها القرآن والسنة؟فإلى أي مدى تصمد هذه المدونة المنجزة عن الحقيقة أمام أدوات العقل النقدي،الذي فتح التفكير في اللامفكر فيه والمستحيل التفكير فيه في التاريخ الغربي،ومكن من انفتاحية للعقل على منجزات الإمكان العقلي؟

  يؤدي محمد أركون عملية جديدة في التاريخ الإسلامي،ترفض القراءات التبجلية للقرآن،كما هي مكرسة في التفاسير الكلاسيكية.ويتجه صوب نزع السحر والقداسة عن القرآن، كما هو حال العملية الاجرائية التي قام بها الغرب في سبيل تصحيح مسار الحقيقة.وهنا تبدأ عملية الفرز الكبرى،ونعني بها ما يتلاءم مع المعدات المعرفية الحديثة،وهي المرجعيات والأدوات العقلانية التي ميزت حقل العلوم الإنسانية.إذ"الإيمان الحديث يتخذ موقفا مغايرا لذلك.فهو يعترف بكل المتغيرات الحاصلة في التاريخ،ويتحمل مسؤولياتها.كما يقبل بإعادة النظر حتى في الأصول الأولى،من أجل انتهاكها وإعادتها إلى المشروطيات المشتركة للجدلية الاجتماعية،وهو ما ندعوه بأرخنة الأصول الأولى للأديات التوحيدية،اي الكشف عن تاريخيتها المحجوبة أو المغطاة بستار كثيف من التعالي"[xxx].فلا مناص من تعرية الأصول،وكشف بنيتها التاريخية،والقيام بعملية التجاوز،التي تفرض الأنسنة[xxxi]،كقطعة أساسية في المنظور الحديث للإيمان بالعقل المُسْتَقِلْ.

   في سياق النقد والتجاوز،عبر ممارسة نقدية للقرآن الذي بدى اليوم محكما بين دفتي المصحف،عمل أركون على زحزحة المقام الكوني للقرآن كما هو عند المسلمين بخطوة أولى وهي تماهيه مع الكتب السماوية الأخرى،ونعني بها التوراة والإنجيل وهي مقدمة اسلامولوجيا كبرى،تجاوزت تحقيق مناطق هذا التعميم،وانتقلت إلى تشخيص تصوري،يرفض الاعتراف بالاختلاف القائم بين هذه الكتب من حيث السياقات ومن حيث المكون والتاريخ،هي فكرة سارية المفعول في الموقف الاستشراقي على الرغم من نقد أركون للاستشراق.

 وإكمالا لمهمة التعميم هذه ينطلق أركون من مسألة الاختلاف بين القرآن والمصحف،معتبرا أن الأول قد فقد ولم يعد موجودا،إنما الذي بقي هو المصحف الذي يعني الكتاب المكتوب عبر اللغة المؤبدة،"ذلك أن هذا التبليغ الشفهي الأول ضاع إلى الأبد،ولا يمكن للمؤرخ الحديث أن يصل إليه،أو يتعرف عليه مهما فعل ومهما أجرى من بحوث"[xxxii]. وهنا تبدأ المطارحة الأركونية،استعمالا لمداولات التحري حول حقيقة كتابة المصحف،وكذا الجدل السلطوي الذي قام به عثمان ابن عفان الخليفة المقتول بسبب الفتنة بين المسلمين،وحرقه للمصاحف الأخرى ثم احتفاظه بمصحف واحد،مع حرب قامت ضد القراء تثبيتا لمصحف عثماني أموي،زيادة في تطويع السيادة العليا في سبيل السلطة السياسية،هو ما تبين بوضوح في التسيير السياسي للأمبراطورية الأموية ثم العباسية،استيلاء على الشرعية النبوية.

  وإذن تعد مرحلة كتابة المصحف،وفرض النسخة العثمانية مرحلة حاسمة،لما تميزت به من صراعات على السلطة؛ومن فعالية الاستحواذ الكلي للسلطة السياسية على السيادة العليا،عبر المفهوم السياسي الإسلامي وهو الخليفة،الذي أصبح مخولا له اداء الاستمرارية بين الأرض والسماء،واعتبار الخلافة شرعية إلهية استمرت بعد موت النبي.و من خلال هذا الاستحواذ تزداد سيطرة السياسي على مفاصيل التاريخ.

  عبر جدل الدين والسياسة ،سيفسر محمد أركون فلسفة الاجتهاد ،التي وضع قواعدها الشافعي عبر هذا التضمين بين السيادة العليا والسلطة السياسية؛لتكون الأصول منتوج عن السيادة والسلطة مجتمعتان تسييرا للزمان الإسلامي نحو التطويع السياسي؛إنما علم اصول الفقه يؤشر إلى استمرار القوى السياسية في خلق أدوات منهجية لتطويع الحق السياسي عموديا اتجاه السيادة العليا.

   الحاصل أن عملية جمع المصحف،تعد عملية جد معقدة من الناحية الأنثروبولوجية،تستدعي تعمقا أركيولوجيا في بنيتها ونظرا عميقا ونقديا في ملابساتها التاريخية،بل سيعتبر محمد أركون الاختلاف في القراءات،تباينا بين نسخ القرآن،لينحو موقفه نحو المطابقة بين هذا الاختلاف واختلاف الأناجيل.دافعا نحو سؤال فارق،هل القرآن هو نفسه المصحف المكتوب؟ أم أن اللغة غيرت المنطوق الشفهي؟ ولذلك يجب النبش في الملابسات السوسيوثقافية والنفسية التي كتب فيها المصحف.

  تردد الاختلاف بين القرآن والمصحف في الفكر العربي المعاصر،بوصفه مقدمة ليبرالية تفكيكا للأصول الإسلامية،نحو انطلاقة حضارية مترقبة،تستقي جذورها وأدواتها من المنجز الحداثي،ولذلك يتكرر هذا الموقف عند يوسف الصديق،الذي اعتبر أن القرآن غادر إلى الأبد،ولم يعد موجودا لأن المصحف ليس هو القرآن،فما بقي هو المصحف الذي فرضته السلطة السياسية،عبر مسار عنيف للاستيلاء على الشرعية،"وهكذا فقد أولي للنسخة قدر من الأهمية يفوق في قيمته النموذج الأصلي.بل يبدو الأمر أدهى في اعتبار إتلاف الأثر الأصلي للقول المنزل فعلا سياسيا مقصودا ومسؤولا"[xxxiii]. كما ينبري محمد شحرور إلى تمفصل بين القرآن والكتاب،ليعيد قراءة العلاقات بين المفاهيم الواردة في القرآن،القرآن والذكر ،القرآن والفرقان، محددا لحدود التفصل بين هذه المفاهيم.[xxxiv]

    كما أن الفرق بين القرآن والمصحف،هي فكرة لها سياقاتها المتجذرة في المخيال الغربي،الذي اعتبر القرآن كتابة محمدية،وهي فكرة لها رواجها لنتشر عقيدة منجزة،بعد ذلك في الدرس الاستشراقي،بل سلك به تسليما دون سؤال؛خاصة وأن المخيال الغربي عامر؛بالموقف الهجومي والسلبي على القرآن ونبيه[xxxv]،لتسود ثقافة تعميمية تقارن القرآن بالكتاب المقدس وتجعلهما سيان،بل يعد القرآن نسخة منقولة عن الكتب المقدسة،التوراة والإنجيل[xxxvi].

  تغلغلت هذه الرؤية عميقة،في المخيال الغربي واتخذت لها الصدارة؛لذلك لا نعدم تأثيرها المباشر على درس المركزية الغربية للقرآن،ثم انحصارها في الدراسات الإسلامية،في الغرب وانتقالها إلى المقلدة من المثقفين العرب المسلمين،كمقدمة تم التسليم بها،واعتبارها بداهة من بداهات الإسلامولوجيا،ما يفسر تأثر المدونة الأركونية بهذه المقدمة اليقنية،التي لم تحظ بالمراجعة والفحص من قبل محمد أركون.

 لقد انتج الدرس التاريخي للقرآن عند محمد أركون ما يلي:

أ-تحول الأصول إلى تجلي تاريخي،بوصفها خلاصة لجدل قائم بين الفاعلين الإنسانين والواقع التاريخي،وقد وضح أركون هذه الفكرة في تحليله الأنثربولوجي التاريخي لسورة الفاتحة قائلا:"المثال يبين بوضوح أن الفاعلين الاجتماعيين هم الذين يولدون النماذج العليا للفكر والممارسة العملية.وهم الذين يقررون كيفية استخدامها أو المحافظة عليها،او تصفيتها والتخلي عنها"[xxxvii].ما يجعل القرآن تفاعل أنثربولوجي يؤول في مجمله إلى تفاعل مجتمعي تاريخي.والحق أن مثل هذا التحليل يؤدي إلى فقدان الأصول الإسلامية قيمتها الأنطولوجية والأخلاقية،ما يعني تخلخل الاجتهاد،بافتقاد أصل الأصول دوره التنظيمي كمقدس،وبالتالي موت الاجتهاد الذي يعني فيه الأصل،ركيزة محورية لشرعنة القيم والمعايير.

ب-الأصول عبارة عن نواة،لإحكام سلطة السلطة السياسية،ذلك أنه عبر العمل المستمر للاجتهاد، تديم هذه السلطة هيمنتها على التاريخ وتثبيت مشروعية وجودها،من هذا الباب استمدت السلالات الحاكمة في الإسلام، حقها في السلطة والحكم ؛ولعل محنة خلق القرآن شاهدة على ذلك،واختيار مذهب فقهي دون غيره دليل آخر.تؤول هذه النتيجة التحليلية إلى ممارسة ميكيافلية،تعتمد الغاية تبرر الوسيلة،وهي تعبير عن عملية نسقية اعتمدتها الدولة الحديثة في مأسسة الأفكار.في حين كان منطق الموضوعية التي تؤدي إلى إحداث التوازن بين الغاية والوسيلة،تحقيقا للمقصد الإلهي هو الذي هيمن على عملية التشريع في التاريخ الإسلامي.[xxxviii] أضف إلى ذلك أن العلماء في هذا التاريخ ،هم من كانوا يتصرفون في الوضع التنظيمي للمجتمع الإسلامي،في حينها  لم تكن الدولة مهيكلة حسب الأنموذج الحداثي ،الذي عوض -في العالم الإسلامي المعاصر-العالم كمنظم أكسيولوجي واجتماعي ساد الفضاءات المجتمعية  الإسلامية بالسلطة المهيمنة للدولة الحديثة.   

ج –العلاقة الحية بين الثلاثي الفكر،اللغة والتاريخ،إنه في تفاعل مستمر ودائم،كل واحد منها يستمد وجوده من الآخر،ولا يعلو أي نص مهما كان على هذا الرابط الثلاثي.الأمر نفسه الذي ينطبق على القرآن بوصفه نصا لغويا،ظهر في التاريخ ولايمكن أن تكون اللغة العربية التي كتب بها،لتنقطع عن جدل الفاعلين التاريخيين.[xxxix]فهي لغة بشرية دلالة وتاريخا.

  الحاصل لقد اتسمت العملية النقدية،في فكر محمد أركون بالجرأة والتفرد،فما من أحد من الأقدمين أو المحدثين تجاسر في التاريخ الإسلامي،على فتح باب المساءلة التاريخية للمقدس في درسه العلمي،نعني بالمقدس هنا القرآن والسنة النبوية؛ثم فرض قولبة معرفية ومنهجية،تنتمي في إطارها العام إلى النمذجة الحداثية،التي فصلت بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون.فهل يستقيم مثل هذا الدرس،ليؤلف منطقا محيطا ببناء الفكر العربي الإسلامي؟أم هو عملية خلخلة وهدم ومن ثمة نهاية الأصول وموت الاجتهاد؟وزيادة سلطة المركزية الغربية على الوعي العربي الإسلامي.

    وعموما لقد نحى أركون إلى أنحاء،سلم فيها بكونية العقلانية الغربية،بل وتميز مركزيتها بالفوقية والقدرة على الفهم،ثم عممها على مفاصل التراثات الإنسانية،دون البحث والتمحيص في نتائج هذه العقلانية التي أفقدت الإنسان صوابه،عبر الجنون الذي أهلك الحرث والنسل،وأدى إلى تدوير الغرائز في عملية كبرى انتهى فيها الإنسان إلى أن يكون مجرد حشرة تموت وتحيا على وقع الاستهلاك.فما هي النتائج المرجوة من نقد القرآن وجعله مجرد وثيقة تاريخية؟ثم ما هي صلة هذا النقد بأبعاد الفكر الوضعي الفرنسي،ولا ئكية التعليم الفرنسي في الجامعات؟فهل يكون أركون مفكرا من داخل العالم الإسلامي؟أم أن الفكر الأركوني هو نتاج للمنظومة الأكاديمية الفرنسية الغربية،بحيث أن الشاغل الكبير الذي شغله هو علمنة المجتمع والدولة،وإتمام السيطرة للفكر الحداثي على الوعي الإسلامي تقليدا،بما فيها الدولة المنبثقة بعد الانفصال عن الكولونيالية التي يكون من  الضروري علمنتها،و شمول شرط العلمنة على المجتمعات الإسلامية. ألا يؤدي هذا إلى انمحاء كلي لهذه المجتمعات،والذوبان التام في المركزية الغربية؟

عند مساءلة القرآن مساءلة تاريخية،وعندما يتم تعويم المفهوم المركزي لدين التوحيد،ليذوب الإسلام في اليهودية والمسيحية،وعندما يتماهى القرآن مع التوراة والأناجيل،التي تمت كتابتهما كتابة إنسانية[xl]،نبدأ بفقد الروح الموضوعية ويتم التننازل عن الوعي التاريخي،ليكون القرآن تابعا لأنموذج يغايره ويختلف عنه،اختلافا جذريا.

   بصفة عامة إن العمل الدؤوب الذي أداه محمد أركون،بغية جعل القرآن عينة في مجال الدراسات الفكرية التاريخية،يحدد منذ بداياته الأولى الغاية،وهي انفصال الوعي الإسلامي عن سند وجوده وتمفصله،فعندما يصبح القرآن وثيقة تاريخية،وخطابه خطابا اسطوري البنية،سيندثر أثره ولن نكون البتة أمام وعي إسلامي،بل وعي انمحى في الوعي الغربي وتابع له،إنه تواري المقدس وأفوله وزوال له،وهو مجرد انموذج عن الأنموذج الغربي.

   مع وزوال أصل الأصول وهو القرآن،ينتهي الأصل عن أداء فعاليته الوجودية والأخلاقية،و بتواريه ينتهي التكليف ويموت،أما نتيجة هذا الانهدام،فهو موت الاجتهاد،ليس غلقا له بل زوالا لارجعة له بعدها،وهذا على درب الانهيارات الكبرى التي أجرتها الحداثة،بما انها تعني التقدم،الذي يفرض السير قدما تخطيا للقديم نحو امكانات لامتوقعة.

 لامراء إذن أن فتح باب الاجتهاد في الفكر الإسلامي المعاصر،لابد أن يكون إنشاءا مرجعيا من ذاته،وليس بتقليد حداثات تنتمي إلى تاريخيات أخرى،إذ لا وجود لحداثة واحدة بل هناك حداثات[xli]،ولكل له ميزاته،أما السير في دروب التحديث الغربي فيعني إحكام الغلق والتقليد على الفكر الإسلامي،من جهة الأنموذج الغربي.  

ثانيا- الاجتهاد والسلطة –السيادة العليا والسلطة السياسية وتأسيس الأصول- :تضطلع المدونة الأركونية،بمهمة نقدية موضوعها هو تاريخ المعرفة في الإسلام؛هي مهمة اتجهت إلى الحفر في الطبقات الغائصة لهذه المعرفة،وسيكون فك البنى التحتية لبنية الأصول،بالنسبة لمحمد أركون بوجه عام-كمفهوم إسلامي له مبرراته التاريخية،بوصفه الحلقة النواة لحقل الاجتهاد- بتطبيق مفاهيم فلسفية،وآليات منهجية متجذرة في البنية الأداتية للعلوم الإنسانية والاجتماعية،فبوسيلة هذه الأدواة يمكن فهم التركيبة المغلقة والأرثودوكسية لحقل علم أصول الفقه،ويتبين ذلك في المنتوج الضخم لهذا العلم،الذي بقي يقدم مسوغات التواصل بين السيادة العليا والأرض،لتعتمد السلطات السياسية على مشروعية هذا الوصال،وتتبناه استكمالا لسيادتها،في الحين نفسه يتنازل الفكر الإسلامي عن أسئلة لماذا وكيف؟

    لقد قدم مفهوم الخطاب ومفهوم السلطة في تشكلهما البنيوي،لمحمد أركون أدوات يتسرب عبرها إلى فهم أعمق لطبقات  الوعي الإسلامي المسنود إلى شرعية الخطاب الديني النبوي.فما هي طبيعة الخطاب القرآني؟وكيف ألف سيادة تتركز خارج التاريخ،لها فعلها في بناء السلطة داخل التاريخ؟

   الخطاب القرآني هو خطاب سلطوي،إنه تجلي لغوي للسلطة العليا،ممدا النبي بالقوة التي تخول له اعتبار الحقيقة واحدة ومتعالية مفروضة رأسيا؛بما أن "الخطاب القرآني [...]هو خطاب سلطوي"[xlii]،موجه من فوق عبر المشروعية الإهية،إلى النبي الذي سهيمن به على أصحابه،بوصفه تنزيل عمودي لأمر الطاعة والانصياع لأوامر الله ثم لأوامر النبي.وبفعل هذه الأسطورية الذي ميزت مخيال التواصل العمودي بين الله والنبي،انبثق العصر التدشيني الإسلامي ذو الصبغة الميثية، والذي سَيُفْرَضُ انطلاقا منه،كمحيط زماني مطلق،سواء فيما تعلق بفوقية الخطاب القرآني،أو السنة التي عدت مصدرا ثانيا،من مصادر التشريع ثم اجماع الصحابة الذين ألفوا بمقتضى صلتهم بالعصر التدشيني، مقدسا يضاف إلى القرآن والسنة،بهذا تهيكل المقدس وامتد عبر وحدات،تعد هي مصدر التأصيل فيما يخص الفكر الإسلامي وتاريخه.

    انطلاقا من هذا العصر التدشيني،تُسْتَمَدُ سلطة الأصول،كبنية مرجعية مؤبدة تُسْتَقَي منها الأحكام ونعني بها،القرآن ،السنة،الاجماع والقياس،هذا الأخير الذي يعد قسما يسيرا من عملية التأصيل التي يقوم بها المجتهد،لشح مقامه وشساعة المرجعيات الأولى وأثرها على العقل الإسلامي.

  لقد ألف التأصيل المسنود على السيادة العليا،المحيط الكوني لتجليات السلطة في الإسلام؛لتمتد سلسلة السلطات السياسية المتعاقبة على أرض الإسلام،آخذة لمشروعيتها السلطوية من السيادة العليا،متجلية في مفهوم الخليفة بوصفه خليفة النبي في مهام الوصال مع السيادة العليا ،إذ"السيادة العليا التي يستند إليها الخطاب القرآني،ثم يشغلها بدوره ليست مفهوما تجريديا،إنما تمثل بالدرجة الأولى تلك الهيمنة التي يمارسها النبي على محاوريه"[xliii].وسيمتد هذا التأثير عبر الاجتهاد الذي يخول التواصل الأبدي للأمة الإسلامية مع العصر التدشيني،أنموذجا مثاليا اسطوريا،له سلطة أنطولوجية وسلطة تشريعية.

    هكذا يكون الاجتهاد تجلي لإحكام الصلة بين السيادة العليا والسلطة السياسية، التي ارتبطت في التاريخ الإسلامي بمفهوم خليفة النبي.وبهذا يعود انبثاق حقل الاجتهاد ضروري لتثبيت مركزية السيادة العليا،فكان إنبثاق علم أصول الفقه، لوصل متكرر للعلاقة بين الله وممثليه،الذين يمرون تباعا على التاريخ آخذين لهذه الشرعية من هذه السيادة المطلقة،بهذا تكون الشريعة منتوجا تاريخيا لإحكام التواصل المؤبد بين الأرض والسماء.فما هي المسارات والسياقات التي اتخذتها هذه الصلة بين السيادة العليا والسلطة في إنتاج حقل الاجتهاد؟باختصار ما هي الصلة بين السلطة والشريعة؟

1-رباط المشروعية في الإسلام –صلة الاجتهاد بالسلطة السياسية-:مكنت الاستفادة العميقة للمشروع الأركوني من الفضاء المرجعي العقلاني الحديث،ومن مستلزماته الأداتية المخولة للعقل كل مطارحة علمية كاشفة،من تحليل بنيوي لحقل أصول الفقه،الذي يعد النواة المركزية للاجتهاد في الإسلامي.ليبحث أركون عن الكيفية التي أدت إلى انبثاق فلسفة التشريع في الإسلام؛فهل هي على وصال مع التدرج الهرمي للسلطة؟بداية من السيادة العليا إلى النبي بوصفه خليفة الله في الأرض،ومتلقي القرآن عروجا على بناء السلطات السياسية المتعاقبة على أرض الإسلام،عبر خط الوصال الذي يعنيه مفهوم الخليفة؛أي خليفة النبي في استمرارية السيادة العليا،لهذا انبثق حقل الاجتهاد كحقل لتسيير عملية تأبيد السيادة العليا،عبر السلطات السياسية المتعاقبة.

   إتماما للعمل العميق الذي يهدف إلى إحياء عملية الاجتهاد، يؤشر محمد أركون  إلى استثمار المادة الضخمة لعلمي أصول الفقه وأصول الدين نظرا ونقدا،بغية توضيح طبيعة الفكر الإسلامي.أما الوسيلة لأداء هذه المهمة الصعبة،فلن تكون إلا بالتمرس على النظريات الحديثة،وهي نظريات الكتابة ،القراءة ،إنتاج المعنى ،سيميائية النصوص الدينية،والمجاوز والرمز والإشارة...الخ.

  ولهذا العمل الحفري المضني،مقصد  مزدوج تبين سابقا في تحصيل مرحلة مهمة ،وهي الاعلان عن تاريخية العقل ليكون حقل أصول الفقه،أو الاجتهاد عبارة عن منتوج سلطوي يركز على جدل تاريخي؛إنه مجرد أحكام ذات صفة إيديولوجية خاصة بظروف اجتماعية وثقافية،لها صلة ببيئات متنوعة.

 هكذا يمُكن الحفر الأركيولوجي من الكشف عن الطريقة،التي تم بها تحويل أحكام إنسانية إلى أحكام مقدسة،إنشاء للشريعة إذ، "نتج عن هذه العملية الكبرى أن القانون الوضعي،في منشئه وأصله إلى حد كبير يستمر عرضه وتقديمه وتطبيقه باسم الشريعة، وكأنه قانون الإلهي"[xliv]؛بهذا يكون الاجتهاد مسوغ إنساني يحول التاريخي إلى مقدس[xlv]،ويعمل على استمرارية التحالف اللاشعوري بين السيادة الإلهية والسلطة السياسية.

أ –علم أصول الفقه وتأبيد السيادة الإلهية:علم أصول الفقه هو علم اسلامي بامتياز،يكون مقصده هو استخراج الأحكام الشرعية من أدلتها الإجمالية،وهو علم منهجي خاصة،فبوسائله المنهجية يمتد الاجتهاد عبر الزمن الإسلامي،بما أن المسلم في ماهيته مكلف بالوفاء بالميثاق الذي تعهد به في ظهر الغيب،سجودا وإقرارا بالوحدانية،ثم أداء للأمانة .

من الجلي أن مثل هذا البعد الأنطولوجي،لمفهوم الإنسان في الإسلام ،بالنسبة لمحمد أركون ومن خلفه العقل الحديث،هو تدوين أسطوري ينتمي إلى العصر التدشيني ،إنما حقيقة الاجتهاد انه عملية رد التاريخي إلى أصول ثابتة،أبَّدَتْهَا اللحظة النبوية عبر نسيج أسطوري مهيمن على المخيال الإسلامي ،إلا أنها ستكون مدار استغلال من قبل السلط السياسية المتعاقبة على أرض الإسلام.

    وهكذا يكون الرد المتواصل للحادث نحو القديم،والذي تعبر عنه الأصول عملية اعتباطية،لا معنى لها  "والسؤال عن معنى الردّ المستمر للأحداث نحو أصولها واضح في الصراع، الذي دار في التاريخ الإسلامي حول مسألة مشروعية الإجماع والقياس،ثم العمل بهما ويعد ابن حزم أفضل شاهد على هذا الحال، واكتفائه بالظاهر ما هو إلا أزمة معرفية داخل علم أصول الفقه تثبت استحالة التأصيل"[xlvi].لاريب أن التحليل الأركوني يستوفي هنا حق التاريخية،ويجعل من الأصول صناعة تاريخية،والتأصيل عمل تأسيسي تكمن غايته في الربط المحكم للسيادة العليا بالسلطة السياسية.وفي حالة ما إذا تمت عملية تفكيك الأصول لانكشفت مصادرها ،فإذا هي صورة للعلاقة بين السيادة العليا والسلطة السياسية.لذلك تتخذ الأدوات التي يستخدمها علم أصول الفقه مصداقيتها،في كونها تتجاوز الصعوبات التي تطرحها الشريعة في علاقتها بالواقع،كما أنها تعيد تسويغ المصالح السياسية عبر لحمتها مع السيادة العليا،وهو العمل الذي قام به الشافعي في الرسالة،كما تلاحظ هذه الصعوبة في مفهوم مقاصد الشريعة عند الشاطبي.

  هكذا تكون رسالة الشافعي هي الأنموذج الكامل،لما يصطلح عليه أركون  بالعقل الإسلامي الكلاسيكي، الذي يتميز    بطاقة وثوقية مغلقة تستجمع موضوعاتها حول مفهوم أساسي هو "أسس السيادة العليا أو المشروعية العليا في الإسلام"[xlvii]،وهو انتماء كلي للفكر القروسطاوي ما قبل الحديث.ولعل تفكير محمد أركون في إطار كرونولوجي غربي ،قد جعله أساس لتعميم تاريخي، قضى على التوجه الموضوعي،الذي كان من المفترض أن يؤسس الدرس العلمي لمشروعه.

   إن التحليل العلمي للرسالة التي موضعت علم أصول الفقه،يحيل إلى مضامين متعلقة بالفلسفة السياسية ،ابستيمولوجيا القانون والروابط بين الحقيقة والتاريخ ثم بين اللغة والتاريخ والقانون في آن واحد،كما وبينت المسوغات التي ولدت عملية الاجتهاد في الإسلام،وبالتالي فهي توضح الأسس العليا،وتقدم المحددات التي تخول  للبشر امتلاك السلطة العليا واستخدامها في عملية الرد الشرعية من قبل السلطات المالكة.

   وتعد الرسالة للشافعي عينة عن عمل العقل التأصيلي،الذي يرد الجديد نحو القديم،وتعبير منجز عن  أدواته المستخدمة،لإحكام العلاقة بين السيادة العليا والسلطة السياسية.إنطلاقا من هذا التحليل،يتجه  أركون معمما  لصيغة واحدية أديان الوحي،معتبرا أن الروح السائدة في رسالة الشافعي، هي ذاتها الروح الوثوقية السائدة في المسيحية واليهودية،إذ يتألف نظام واحد من المفاهيم المغلقة الإكراهية.

ب-في مقاصد الشريعة عند الشاطبي و البحث عن المصلحة كمسوغ للسلطة السياسية:يعد علم أصول الفقه حقل للوصال بين السيادة العليا والسلطة السياسية،كما أنه آلية عقلية مرسخة للعقل الدوغمائي المغلق،الذي يواصل دائما سحب الأصول على التاريخ،مصرا على تكرارها الدائم عبر حقب التاريخ المتغير،هي العملية عينها،التي تفسر نشوء مقاصد الشريعة وتقعيدها عند الشاطبي الفقيه الأندلسي.فمن خلال مفهوم المصلحة،تتبين المصاعب الكبرى التي واجهت الشريعة،في محاولتها تجميع التاريخ في لحظة الحكم،فكانت المصلحة الشرعية مخرجا،بنى عليه الشاطبي مفهوم المقاصد،توسيعا لمسوغ السلطة.

 وإذن  ستسمر عملية التأصيل،وسحب الأصول على الواقع،فيما يعتبره الشاطبي،علم الشريعة المؤسس على كليات تؤبد الصلة بين السيادة العليا والسلطة السياسية،إنها عملية التحويل والتثبيت التي يجريها العقل الإسلامي على التاريخ ليجذب الواقع نحو العصر التدشيني الأول، الموثق في المخيال التقديسي للمسلمين ،وذلك "من أجل الحفاظ على مكانة السيادة العليا في مواجهة اعتباطية السلطات السياسية"[xlviii]، وبهذا يفسر أركون  التطور المعرفي والمنهجي الذي أسس علم أصول الفقه ،وأنتج المكون المركزي للوجود الإسلامي وهو الشريعة،بعملية التحويل المتواصلة للواقع نحو الأصول ،والذي تسببت فيها الصراعات السياسة حول الخلافة،بوصفها تجلي للعلاقة بين السيادة العليا والسلطة السياسية.

يبرر أركون  ظهور مقاصد الشريعة ،بمواصلة  السيادة العليا في وضع المسوغات التي تخول للسلط السياسية المتنازعة في امتلاك زمام الأمر السياسي "يشهد على دوام (استمرارية) الصراع ما بين التعلق بالمجتمع- الأمة حيث تبرر السيادة عملية الوصول إلى السلطة، وممارستها- وما بين تعددية السلطات التي فرضت نفسها بواسطة القوة"[xlix].كما ويشير أركون إلى أن الشاطبي كمثيله ابن تيمية قد حدد الصعوبات النظرية،التي أثارتها الشريعة،في علاقتها بالتاريخ،عاملا على ربط السيادة العليا بالسلطة السياسية؛هذه السيادة التي انتقلت إلى يد الخليفة،بوصفه خليفة للنبي،ذلك أن تطبيق الشريعة بوساطة الخليفة  يؤدي مهمة الإخلاص تام للمقصد الإلهي الموضح في الشريعة[l].

ووفقا لتفسير أركون،يكونّ الشاطبي قد فهم الصرامة المفرطة لأصول الفقه،كما قعد قواعدها الشافعي،إذ اعتبرت العلة هي المحرك الأساسي للعلاقة بين الواقع والحكم ،فالأصول هي تلك الأحكام المستخرجة من حرفية النص،والناظر في المنهجية الشاطبية، يعرف أن أبا إسحاق قد فهم جيدا ،صعوبة هذا المسلك  أي تعليل بالعلة الظاهرة في النص والنتائج التي أفرزها بمرور الزمان،بحيث لقيت الشريعة مصاعب جمى،إنه مسلك يعمد إلى قياس التاريخ الحاضر على التاريخ القديم وتحويل المتغير إلى الثابت؛وعليه فقد أولى الشاطبي أهمية قصوى للمصلحة،كمعامل موضوعي سيشكل الفهم الجديد لأصول الفقه وهنا يؤكد أركون  على "أن الشاطبي أراد في الواقع أن يصالح ما بين ضرورة الحفاظ على الجوهر الإلهي للشريعة (التي هي ذروة سيادية  تتجاوز حتى الإمام والخليفة) من جهة،وإمكانية تمثل وهضم التغير الاجتماعي التاريخي على طريقة المدراش اليهودي من جهة أخرى"[li].

في خلاصة ما سبقت،تمن الإشارة إلى أن علم أصول الفقه هو علم إسلامي،تكمن وظيفته الأساسية،في مواصلة تأبيد اللحظة النبوية،وعند الحديث عن هذه اللحظة، يكون مفهوم السيادة العليا هو المحرك،فالنبي جسد الخطاب الفوقي لله وسيستمر في سحب العملية على التاريخ،ويبدو أن السلطة السياسية ستتبنى السيادة لتمرر الوصف الطبيعي للملك عبر هذه السيادة في حد ذاتها.

وعموما يتجاوز المشروع الأركوني،نحو فتح مغاليق الفكر الإسلامي عبر أسلوب نقدي،إذ يحفر في أرض هذا الفكر المحكمة الصلابة عبر أدوات منهجية،هي عينها التي طبقها العقل الغربي على تراثه الديني،فخلص إلى تاريخيته وأن الكتب المقدسة ليس إلا تاريخا إنسانيا، كتبه الرجال واصفين وضعهم الأنطولوجي ومشاغيلهم التاريخية،ولكن إذا انتهى الدليل الأول وهو القرآن من أن يكون وحيا إلهيا،فهل بقي من ضرورة للاجتهاد؟هل من بقاء لما يصطلح عليه الفكر الإسلامي؟بما أن وصف إسلامي يميز هويته وبنيته المستقلة. 

2 -موت أصول التشريع الإسلامي باستحالة تأصيل -:انبنى المشروع الأركوني في فضاء حداثي تميز بنهاية المقدس وأفول تأثيره على الذات،كما اختص بموت المعايير واضطرابها،بحيث أصبح من غير الممكن تمثل قيمة أخلاقية معطاة، أو معيار محدد يضبط السلوك.فكل شيء،وكل معنى يتهاوى أمام شساعة الليبرالية والفردانية،والتي على إثرها كان افتقاد البوصلة الأخلاقية،ونهاية الأخلاق وموت الواجب،بل الدعوة إلى ما يصطلح عليه ما بعد الأخلاق،ليس تحليلا لغويا ابستيمولوجيا بل ممارسة عملية؛ليتساءل العالم بأسره عن فوضى المعايير،وعن نهاية الاختيارات الأخلاقية بسؤال أكبر"القيم إلى أين؟"[lii].

   سعى محمد أركون إلى تغليف الفكر الإسلامي بنزعة الأنسنة،والحديث عن إنسانية مبكرة،ظهرت في القرن الرابع الهجري من التاريخ الإسلامي،تميز أقطابها تميزا مخصوصا بالولوج إلى الإنسي،وليس إلى اللاهوتي،منهم التوحيدي والعاملي ومسكويه،فما هي النزعة الإنسانية التي ميزت هذا الفكر؟هل تتطابق مع النزعة التي ظهرت في أوروبا النهضة؟أنكون إنسانيين عندما تنقضي المركزية الإلهية؟ثم ماهي المركزية الإلهية؟خاصة أن تصور الألوهية في الإسلام يختلف عنه في المسيحية،فماذا تعني الأنسنة؟

   على الرغم من أن المشروع الأركوني قد ألف مقدمة نقدية فتحت آفاق النقد أمام الوعي الإسلامي،قد نصفها بأنها عملية شق مغاليق الوعي الإسلامي،كما وأنها قدمت قراءة وتأويلا،لهذا الوعي  من قبل المنهجية الحديثة.إلا انه سعى إلى تثبيت كونية المركزية الغربية،متصورا إياها دائرة شاملة وعامة،تهيمن على كل الثقافات الإنسانية،بل هي المسؤولة عن تحديد معايير الصالح وغير الصالح؛لذلك نحى إلى ترتيب الوعي البشري جملة ،ضمن التراتبية التاريخية الغربية،ما قبل الحداثة ويشمل التراث الديني ،بوجه عام بما فيه التراث الإسلامي،ثم الحداثة وهي الغاية المنشودة والإطار العام الذي يجب أن تسير اتجاهه كل الثقافات البشرية،مع التذكير أن الحداثة مصطبغة بالصبغة الأوروبية وتاريخيتها المرتبطة بأورمة المسيحية، ثم ما بعد الحداثة التي تبين عن طبيعة العقل الاستطلاعي المنفتح على الآفاق،ولكن ما هي هذه الآفاق وما فائدتها بالنسبة لإنسان اليوم وقد فقد معنى المعنى،وأفل المقدس بالنسبة له؟

  يستلهم محمد أركون الفلسفات الغربية،ومناهج علوم الإنسان والمجتمع،لإعادة تدوير الفكر الإسلامي،نقدا ثم إعادة إنتاجه ليكون منطبقا مع النسخة الحداثية،وبالضبط النسخة الفرنسية،وهنا يجب النظر في طبيعة الحداثة ومنتهاها،وتحقيق مناطها في عالم إنساني زال عنه المنطق الأخلاقي ،ليكون الحاكم الأول فيه، هي العلاقات المادية التي تهيمن عليها الأبعاد الاستهلاكية،حيث لم يبق للإنسان سوى تدوير الغرائز، بإعادة إنتاجها وفق مواد تشبعها ثم تحطيم هذه الموادء بعدما تنبثق غرائز أخرى أكثر جموحا.

 أدى النقد الأركوني إلى تقرير الطابع التاريخي للقرآن،فكلمة القرآن "تحتاج إلى تفكيك مسبق من أجل الكشف عن مستويات من المعنى والدلالة"[liii] وهي عملية أصلية وضرورية، إذا ما أراد الفكر الإسلامي انتزاع حقوق القراءة العقلانية مقابل القراءة الإيمانية.خطوة مهمة دعى إلى انجازها محمد أركون في سبيل تخطي العقبات التي تحول دون تطور الفكر الإسلامي،والدخول إلى الحداثة.

 في التقرير التاريخي للنص القرآني واعتباره ترددا للكتاب السماوي كما هو التوراة والإنجيل[liv]،سيتنازل القرآن عن كونه أصل الأصول بانتفاء وجود عقل خارج التاريخ،وأن فكرة القول المنجز والأزلي ،لا مكان لها داخل الرهانات الكوجيتو المؤسس على بداهة العقل،والأفكار الفطرية التجريبية.فلا مكان للعقل القائم خارج هذه المسلمات الإبستمولوجية،التي امد بها الكوجيتو فلسفة الحداثة وأطرها العامة ذات الصبغة الكونية.

  هذا التسليم بأولية العقل الإنساني ،وأولية التجربة،أدى بالتيار الحداثي،القارئ للقرآن وفق مفهوم التاريخية إلى فقدان الثقة الكلية،في قبلية النص القرآني أو خروجه عن الإطار العام للمفهوم الحداثي للعقل.إن الترهين التاريخي للقرآن يجعله سياقا سوسيو تاريخي وثقافي لتاريخ موجود في الشرق الأوسط،ورد فعل على بنية قبلية عربية،ومن هذا الباب ينتقي أركون البنية الكلية لتفسيره لسورة التوبة عبر جدل المقدس والعنف[lv]،مقدما لبديل عن التفسير الكلاسيكي معوضا إياه بالتفسير الحداثي الذي يؤلف مقدمة للإسلاميات التطبيقية.

   تنتهي حقوق القراءة العقلانية مباشرة،إلى تقرير استحالة وجود الأصل،ما جعل حقل التأصيل عمل اعتباطي كليا، وهنا يصبح مفهوم الاجتهاد في أزمة،خاصة أن الغاية التي ارتضاها علماء المسلمين هي ربط محكم بمضان التكليف،ليكون دأبهم هو إنتاج مجموع آليات تؤلف الروابط بين الأصل والواقعة والحكم.

  يتوجه التشخيص الأركوني إلى تنبيه المسلمين المعاصرين،إلى ضرورة إعادة النظر في عملية التأصيل الموصولة بالقدماء وتدويرها تدويرا نقديا،يتجاوز منطق الحقيقة الواحدة والمغلقة التي لا تتشارك التأويلات والتعددية.بمعنى أن عملية التأصيل في حد ذاتها عملية تاريخية تخضع للمتغيرات التاريخية والاجتماعية.

ثالثا- البديل الفكري الأركوني-الاجتهاد والإسلاميات التطبيقية- :ينطلق المشروع الفكري لمحمد أركون من مشترك،جامع بين أقطاب الفكر العربي الإسلامي،مع تمايز للبدايات والنهايات،إنه مطلب التغيير فكا لأزمة الانسداد، التي تلازم هذا الفكر بوجه عام؛ ثم أزمة الأفكار التي تميزه بوجه خاص.وما فتئ هذا المطلب يتكرر في هذا الفكر،منذ لقائه بالحداثة،ثم ولوجه إلى الصدمة،التي  دفعت به إلى دروب متنوعة من التقليد،تقليد القديم وتقليد الطارئ.

  جلبت صدمة الحداثة ضرورة الاسراع أداء لمهمة التغيير،فانشطر هذا المطلب إلى ثنائية:المطالبون بأداء الاصلاح تجديدا،وينتمي هؤلاء إلى القديم[lvi].أما طالبو التغيير الجذري،فيرتكز مقصدهم على وجوب تجاوز القديم تفكيكا وردما[lvii]،لذلك فهم ينتمون إلى الطارئ مرجعا ومنهجا؛ويكون مشروع أركون أنموذجا أقصى عن هذا المطلب.وإذا كان الحدثيون يعتبرون، أن النقلة لن تكون إلى من جهة الحداثة الغربية،فإن المشروع الأركوني يتجاوز إلى نقلة نوعية متفردة،وهي ضرورة انحصار القديم انحصارا تاما،ثم المبادرة ببناء رؤية مغايرة كلية،بوسيلة تأسيسية وهي الإسلاميات التطبيقية.

  تبين فيما سبق أن الإجراء الأول على سبيل تعويض الاجتهاد الكلاسيكي،هو انفتاح على قراءة علمية للفكر العربي الإسلامي،قراءة لا تؤمن البتة بالمقدمات الدغمائية المغرقة المسجونة في القطعيات؛وهو ما بدى بكل وضح تطبيقا لخطاب تفكيكي يتجه نحو الحفر في مضان النصوص التأسيسية الكبرى،فلا يمكن تغيير الوجهة الكلاسيكية، إلا بتغيير الرؤية الطقسية الدغمائية للقرآن بأخرى علمية،تتجاوز التقديس إلى النظر العقلاني الفاحص، حيث يكون للتحليل الأنثروبولوجي للظاهرة الدينية الكلمة الفصل،بيانا لحدود الحقيقة التي توجه المنظومات الدينية لصالح موقف أيديولوجي،وهو أمر واضح في المنافحة الخطابية العنيفة،التي يديرها المتخاصمان التاريخيان،أهل السنة والجماعة من جهة ،وآل البيت الشيعة من جهة أخرى،حول منظور محدد للحقيقة[lviii]،كما وتتضح في الحرب التي تجري بين اتجاهات الإسلام المعاصر،إذ تجري معركة خطابية تستغلها الدولة الوطنية المستقلة لتمديد سلطة فئات محددة تمتلك مصالح أيديولوجية.[lix]

  يكون البديل عن الاجتهاد الكلاسيكي المغلق،هو اجتهاد منفتح؛يتخلص من وعي الحقيقة المطلقة،ويتجه نحو كشوف الحقيقة المنفتحة على الممكنات؛إنه مجال جديد يصطلح عليه محمد أركون بالإسلاميات التطبيقية،فما هو هذا البديل ومرجعيته؟ثم ما هي طبيعته وأدواته؟هل أمد محمد أركون بوسائل أداتية ورهانات تاريخية،تضمن استمرار الاجتهاد فتحا بعد انغلاقه؟أم أن الإسلاميات التطبيقية،هي عينها الوضع التجاوزي، للحقيقة الإسلامية نحو التفكيك والانفصال،كما جرت وتجري حسب الإيقاع البنيوى للحداثة؟هل يمد هذا الاجتهاد البديل بوسائل إجرائية ضبطا للتكليف كما تحددت وظيفته في الحضارة الإسلامية؟ أم أنه سيضطلع بانهاء،بل وموت التكليف كما يفترض منطق المابعديات؟ ذلك أن الحداثة تفوق كل إملاء من خارج المحيط الفردي،وتثبت الاستقلالية،كرهان مطلق للحق الإنساني؛وتحيط الذات بالحرية بدأ من الخيار الشخصي المستقل، إلى ممارسة الديمقراطية في الدولة المدنية،الكفيلة بحفظ كل شكل من أشكال الخيارات الفردية.

  تأتي الإسلاميات التطبيقية عند أركون،كبديل للإسلاميات الكلاسيكية،بوصفها خطاب العقل الغربي عن الإسلام.لقد ادرك أركون أن هذا الخطاب عاجز عن التسرب إلى الظاهرة الإسلامية،بالنظر إلى طبيعة المناهج التي استخدمها درسا للإسلام،كما أن الشحنة الأيديولوجية المحيطة به،تجعله وسيلة لمعرفة الآخر في زمن الكولونيالية[lx]،ثم سيمتثل لوجهة أخرى بعد انتهاء هذا الزمن،إذ ستنحصر في مجرد معرفة الآخر وليس تغييره.

  كما وتصدر الإسلاميات التطبيقية،من تشخيص أركوني،للفكر الإسلامي،الذي تميز بالإنغلاق وهيمنة التبجيل والتمجيد لتاريخ الذات،وهنا جاءت الدعوة الأركونية لتأسيس خطاب بديل،يمد الفكر الإسلامي بالحياة والعودة إلى النشاط ،كما كان في البدايات الأولى لانبثاقه.فما هي الإسلاميات التطبيقية؟و إلى أي مدى تتصرف كبديل عن الاجتهاد في التاريخ الإسلامي؟

    يجب التذكير،بأن العثور على الإسلاميات التطبيقية مطبقة على الفكر الإسلامي،يبدو أمرا عسيرا للغاية،ذلك أن محمد أركون بقي في حالة من الإشادة النقدية،بالصلاحية المطلقة لهذا البديل،وممارسة التفكيك لما يصطلح عليه العقل الأزلي الذي يتحلق حوله المسلمون،دون التجاوز نحو المبادرة التأسيسية،مقابل المبادرة القديمة لرسالة  الشافعي،باعتبارها  الانبثاق الأول  لعلم أصول الفقه بديلا منهجيا مكينا،له صفة بنائية،كما وله قواعده المعرفية وادواته المنهجية.و إذن فهل تكون الإسلاميات التطبيقية،وظيفة نقدية حصرا ،دون الانتقال إلى المرحلة البنائية؟ بمعنى تأسيسه لبديل له قدرة خلق الأفكار بما يتناسب وطبيعة الفكر الإسلامي.

 1 –مفهوم الاسلاميات التطبيقة :تنطلق الإسلاميات التطبيقية،عند محمد أركون ،من رؤية نقدية شاملة،تحيط بالظاهرة الدينية باعتبارها كل متكامل من البنيى السيكو سوسويولوجية،اقتصادية والسياسية،تتجلى عبر اللغة التي تؤلف محيط الحركة الديناميكية لوحداتها البنائية،وعليه تكون المهمة الرئيسة للإسلاميات التطبيقية،هي فتح الحقيقة التاريخية وتدارك التفاعل القاعدي للظاهرة الدينية،كما هي منجز إنساني في إطار التفاعل الإنساني الزمكاني.

   وهكذا تتجه الغاية من الإسلاميات التطبيقية،إلى انتزاع درس علمي محقق عن الظاهرة الإسلامية وتاريخها.وعود على بدء فإن العلمية المنشودة ،تستقي ركائزها من رؤية مرجعية عقلانية،ناقدة تتخلص من النكوص الإيماني،لتواكب الظاهرة الإسلامية نقدا وتجاوزا.إن العمل الذي تؤديه الإسلاميات التطبيقية، جرئ إلى حد أنه يحدث انفجارا للبوتقة العقدية للمحيط التاريخي،الذي يحي فيه المسلم،وتسائل عن البديهي تشكيكا في الإيمان،لتعوضه بالعقل المتحرر،الذي يبدأ من الشك ويتجه صوب التفكيك- كما يلح دائما محمد أركون عبر كتاباته الممتدة في الزمن- لكن هل تلت عملية التفكيك مرحلة التأسيس؟ أم أن الاجتهاد هو أنموذج تطبيقي لنهاية السرديات الكبرى؟

 هكذا يقصد محمد أركون بالإسلاميات التطبيقية،استبدال المناهج الكلاسيكية في دراسة الإسلام بمناهج نقدية تضطلع بكسر الطوق المحيط به،آخذا إياه إلى الانفتاح والتجلي.غير أنه في فحص هذا البديل بحثا في أسسه المعرفية وأدواته المنهجي،يبدو متسما بضبابية وفقدان للمعالم،إلا في إشارة قال فيها أركون موضحا مقصده:"وهو تاريخ تطبيقي عملي في نفس حركة البحث ذاتها،لأنه يهدف إلى تلبية حاجيات وآمال الفكر الإسلامي المعاصر"[lxi].ماذا يقصد محمد أركون بالتطبيق هنا؟ هل هو حالة من التأسيس؟ أم هو مسار من التفكيك النقدي لظاهرة الإسلامية،على حد تعبيره؟ دون ترسيم البديل،فقد مكث طور أنتاجه الفكري في مرحلة النقد والترديد،دون تقديم أمارات للبناء والتأسيس.

 إن تتبع مفهوم الإسلاميات التطبيقية،يحيل إلى مبارشرة إلى مفهوم الأنثربولوجية التطبيقية عند عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي روجي باستيد،Roger Bastide [lxii]،الذي اتخذ فرع دقيق من علم الأنثروبولوجيا،وهو الأنثروبولوجيا الدينية كموضوع أساسي لدراسة انبثاق ونمو الظاهرة الدينية،لذلك ركز ورجي باستيد على حقل الظاهرة الدينية، بحثا في نشأتها ومناهجها التي تستحضر البنيى السيكولوجية،الاجتماعية الاقتصادية والسياسية،كما تتوقف عند المشكلات المثارة حول الحدث الديني مع الإشارة إلى دور اللغة كعامل أساسي، في إنشاء معنى التقديس وشرعنته.

  لقد تطورت الأنثروبولوجيا التطبيقية عند باستيد،مقابل التحليل الوضعي الماركسي والتحليلي الفرويدي اللذين كانا يستخدمان في تحليلهما للظواهر الانسانية والاجتماعية،ومنها الظاهرة الدينية التبرير،التشدد والقمع.لذلك يرى روجي باستيد بأن  المرحلة العلمية الجديدة، من دراسة الظاهرة الدينية،تكون عن طريق علوم الإنسان، أكثر تدقيقا في بحث التفاعل بين العوامل المؤلفة للأفق الإجتماعي،أي الفحص الأنثروبولوجي للظاهرة الدينية في أسسها المخفية،وممارساتها الطقسية .

المدقق في المنتوج المعرفي والاقتراح المنهجي الذي أسسه روجي باستيد،يدرك أن مفهوم الإسلاميات التطبيقية قد انسل من رحم الانثروبوجيا التطبيقية،التي ركزت على دراسة الظاهرة الدينية،عبر أدوات العلوم الإنسانية،حفرا عميقا في اللاشعور الديني.لاجدال إذن أن الوظيفة التي تناط بها الإسلاميات التطبيقية،هي جزء من الدرس العلمي للأنثروبولوجيا الدينية تؤدي وظيفة مركزية هي الفهم والتحليل،مع فحص الوظيفة التي يناط بها علم الأنثربولوجيا في العصر الحديث من بعد تسلطي،خاصة أن روجي باستيد قد ركز في درسه التطبيقي،على شعوب إفريقيا وامريكا اللاتنية،كأنموذج للدرس التطبيقي للأنثروبولوجيا الدينية[lxiii].

  ترتكز الإسلاميات التطبيقية على ممارسة نقدية عبر فسيفساء تلفيقية من المناهج الغربية،انطلاقا من الأنثروبولوجيا التطبيقية إلى مفهوم اللاشعور الديني عند بيار بورديو إلى مفهوم الخطاب والسلطة عند فوكو وهلم جرا من الأبعاد الفلسفية والممارسة المنهجية،إنما  اخذت لها فقط موضوعا آخر هو الإسلام بوصفه ظاهرة،تجلت عبر أبرز ظاهرة فيه وهو القرآن كنص يتردد ضمن الإطار العام، لما يصطلح عليه الفهم الوضعي للدين الكتاب السماوي.فهل أسس أركون حقلا بنائيا،لاجتهاد يمد به الإسلام تحيقا لآمال الفكر الإسلامي؟

2-وظيفة الإسلاميات التطبيقية –النقد والتفكيك -:إن المتصفح للمنتوج الفكري لمحمد أركون الممتد لعقود من الزمن،يتبين فيه مرحلة أساسية،وهي تشخيص وضع الفكر الإسلامي،وقد ميزه بأنه دوغمائي تحيط به سياجات من العقائد المغلقة ذات السمة الميتافزيقية الجوهرانية[lxiv].أما عن وظيفة الإسلاميات التطبيقية،فتكمن في كسر هذا الانغلاق،وفك طوق السياجات المحيطة به،ثم تحرير الوعي بالانفتاح على المنجز الحداثي المعنوي والمادي.فما هي الوسيلة إلى ذلك؟

   يجب الاعتراف بأن الإسلاميات التطبيقية،تمد بالوسيلة إلى النقد وضرورة التحقق بالتحرر من انغلاق والدوغمائية.وبذلك تؤدي الإسلاميات التطبيقية عملية مزدوجة،أولا: تتبين وظيفتها الأولى،في تجاوز الخطاب الكلاسيكي الغربي عن الإسلام وتاريخه،يعني به أركون الاستشراق و الإسلاميولوجيا اللذين راحا يطبقان مناهج وضعية، تنتمي إلى معرفة لم تدراك علوم الإنساني والمجتمع،وهي متمسكة بالمنهج الوضعي الفيلولوجي،كما ويهيمن عليها منطق السيطرة على العالم العربي الإسلامي،في سياق كوني تميز بالاستعمار والهيمنة،"إن الاستشراق أو الإسلاميات الكلاسيكية،هي عبارة عن خطاب غربي عن الإسلام"[lxv]،أما العملية الثانية:فتتحدد في تحرير الوعي الإسلامي في حد ذاته من المخيال الديني المهيمن،فقد حول التاريخ،العصر التدشيني النبوي إلى أسطورة مهيمنة على الأبعاد الوجدانية للمسلمين. تكون الإسلاميات التطبيقية،هي  البديل القمين بتحرير الفكر الإسلامي،اضطلاعا بالعقل المستقل والاستطلاعي الذي يميز الحداثة وما بعدها.

   هكذا ترتبط الرهانات المفروضة على الوعي الإسلامي،بأداء لمهمة الاضطلاع بالعقل المستقل،الكفيل بالتجاوز إلى مساحات اللاشعور العقدي،وأداء عملية خطيرة وجسورة،تمثلت في نقد المقدس،وتفكيك بناه.ولاريب أن هذه الخطوة النقدية،تفرض محور البناء،تقديما للمشروع البديل.فهل هناك مرحلة للتأسيس المفترض،التي تمد بها الإسلاميات التطبيقية الفكر الإسلامي تحريرا له وفكا لمغاليقه؟

  والحق أن تتبع الوظيفة التطبيقية للإسلاميات التطبيقية في المنتوج الفكري الأركوني،يؤكد أن المدونة الأركونية توقفت في مرحلة النقد والتفكيك،مرددة للقيمة المعرفية لمدرسة الحوليات الفرنسية،والمنهجية البنيوية لكلود ليفي ستروس،والجينيالوجيا الفوكية والتفكيك عند جاك دريدا...الخ من مدارس فلسفية وأدوات منهجية،لكن النقلة إلى تصور بنائي عن ما هي الإسلاميات التطبيقية التي تقود إلى منجز فكري، يحقق آمال الفكر العربي الإسلامي المعاصر،لايتم العثور عليها في المنتوج الفكري لمحمد أركون.

 حاصل القول،أن محمد أركون ينطلق من لحظة التشخيص،لتبين الإسلاميات التطبيقية،الظرف الفكري العربي الإسلامي من حيث ثبوته وانغلاقه،هنا تبدو فعالية الإسلاميات التطبيقية في فتحها لباب الكشف والنظر،وتكون الفائدة من هذا التشخيص أنه تجلي لمعالجة الآخر للذات بوسائل،هي المناهج الغربية الأكثر تطورا،ليتموضع الفكر الإسلامي وتاريخه كموضوع لدرسها وهي مرحلة للقراءة والتأويل، تزيد في بيان طبيعة هذا الفكر،وتمد بالإشارات لعل مرحلة إبداع وميلاد جديدة لهذا الفكر،تلمح في أفق الممكنات اللامتوقعة.أما عن الخلاصات النهائية التي يحيل إليها هذا النقد جملة فهي انهدام هذا الفكر،فلا مجال لمطابقة مسارات الكوجيتو الذي انتهى بفك الميثاق مع الماوراء،بالإسلام الذي ينطلق بعقد الميثاق مع الله،ليتجلى في التكليف،بوصفه المسار العملي لعبودية الإنسان لله؛هذه المفارقة هي التي جعلت المدونة الأركونية ترواح في مرحلة النقد،ماكثة فيها من دون تقديم البديل،عن الاجتهاد الإسلامي الكلاسيكي.

رابعا- البيئة والإنسان ومسار الحداثة والحداثة البعدية-سياق التكليف بالأمانة-:ربما سيكون مثيرا،ان تخلص هذه الدراسة إلى إثارة أحد اكبر الهموم الإنسانية الراهنة تداولا،وهي الأزمة الأخلاقية الكونية،فما من قرابة بين مشروع فكري ترتكز دعوته النواة على النقد المعرفي للفكر العربي الإسلامي من جهة،والانشغال الكوني بالأزمة الأخلاقية من جهة أخرى.فما هي الصلة بين الإشكاليتين؟

  الحق أن القرابة متينة ومحورية بين نتائج القراءة التاريخية لأصل كالقرآن،والترديد بضرورة نقد الأصول وتجاوزها،دخولا إلى الحداثة،ونيل مكتسباتها المادية والمعنوية كمطلب أركوني،خاصة أن الأصول الدينية،ليست إطارا نظريا بقدر ما أنها انبعاث روحاني أخلاقي،ممدا الذات بقاعدة وجودية محيطة،سواء فيما يخص الإجابات الكبرى،للاستفهام البشري عن معنى الوجود،أوالإطار العملي للإجابة عما يجب فعله أخلاقيا.ولأن الغاية الأركونية،هي الولوج بالإنسان المسلم إلى الحداثة،بمعنى انتزاع لباس التكليف،والدخول في إطار الحرية اللامتعنية،سيكون تتبع مسارات الحداثة،فيما حصلته من انهيارات أخلاقية متتابعة،ثم الفرق بين إنسانية التعقيل وإنسانية التكليف،محوريا بالنظر إلى النتائج المحققة على الأرض،من قبل الإنسان الذي فقد العلامات وانتهى من دون توجيه المعنى.

     تنطلق النزعة الإنسانية منذ عصر النهضة،من فك الميثاق بين الإله والإنسان،لتكتسب الأنا محورية التصرف،كما تكون علامة على الحق والخير،مع انحصار غايتها في المتعية والسعادة ؛ثم أنها اتخذت إطارا شاملا وهو السلطة والملك على الطبيعة اشباعا للذاتي،هنا تنفتح مرجعية أخلاقية، تجمع بين مركزية الإنساني وتواري المعنى ثم غائية السعادة التي أحدثت ترهلا في الأخلاق،فلم تعد هناك واجبات اخلاقية ،إنما هي الأخلاق اللامؤلمة بتعبير لوبفتسكي[lxvi]،هي هيدونية حصلت أزمات متعددة الضروب،على صعيد ممارسات العنف على الإنسان،ثم موت الطبيعة،وهو بالذات الظرف الذي يحل بالإنسان في نسيانه للميثاق وتنازله عن الأمانة وأداء التكليف.

كان لقيام الإنسان في مركزية إلهية،انزياح للمعنى من التعالي الإلهي إلى التعالي البشري،وهنا أصبحت الطبيعة البشرية هي موقع الهيمنة على المصوغ القيمي،ليتلبس الغريزي بالأخلاق،فيبرر الأول الثاني وينبني عليه،فتسقط كل القيم الأخلاقية.  لم تعد للقيم أبعادها الثابتة والمتعالية،إنما تهيمن عليها المراجعة النسبية،المتغير التاريخي،والغائية المتعية.

  إن انحصار الحياة الإنسانية في بنية نسبية،أدى إلى انهيار المنظومة الأكسيولوجية،فلاوجود لأخلاق عامة توجه الذات إلى ما يجب فعله مع سيادة مهيمنة لضبابية المعايير،فلا وجود لعلامات في هذا العالم،وحينئذ إذا أراد العالم المعاصر تأسيس أخلاق،فإنه سيصطدم بالفراغ[lxvii]،خاصة فيما يخص القيم الأخلاقية،والانحياد عن الخضوع إلى مبدإ فوقي،فهل يمكن للحداثة أن توجه إلى القيم صالحة تخضع لها الذات؟

   كما تساوقت النزعة الهيدونية مع ظهور الرأسمالية،وانتشاء الاستهلاك المؤسس على الترويج الهيدوني،ما أدى إلى انبثاق نزعة استهلاكية فائقة،ففي أحد أعماله الرئيسية ( عصر الفراغ L'ère du vide ، 1983)، يحلل ليبوفيتسكي مجتمع ما بعد الحداثة الذي اتسم ،حسب رأيه،بالانحسار من المجال العام بسيادة الفردانية الفائقة،بالإضافة إلى فقدان المعنى من مؤسسات جماعية،اجتماعية وسياسية،ثم أضف إلى ذلك ثقافة منفتحة قائمة على تنظيم العلاقات الإنسانية ،التسامح، مذهب المتعة،إضفاء الطابع الشخصي على عمليات التنشئة الاجتماعية،زوال الأسرة بعد أفول الواجب العقلي التعليم المتساهل،التحرر الجنسي، الفكاهة التي تعقبها التفاهة.

   تولدت عن رؤية المجتمع هذه،سيادة النزعة الفردية الجديدة التي ترتكز على النرجسي،هو ظرف مرتبط برؤية الحداثة التي أدت إلى مركزية الإنسان،انتشاره النفعي في العالم،فقهرت الإنسان وأفسدت الطبيعة،لذلك تنتشر الدعوة الأكسيولوجية في الراهن الإنساني،من أجل إيجاد حلول للأزمة الإنسانية والأخلاقية الراهنة،إنه ترسيخ ميثاق جديد يضبط برومثيوس الذي انفك من عقاله،لعل أخلاقيات المسؤولية،العدالة والتواصل،هي رسائل العقل للتريث والهدوء وضبط للإنسان الحديث الذي فقد البوصلة.

مقابل النزعة الهيدونية الكونية،يكون التكليف الإسلامي منطقا إنسانيا وأخلاقيا،يمكن أن يحضر في العالم بوصفه حلا مقترحا،له من الامكانات الوجودية والأخلاقية،التي تضبط صلف البرومثيوس،عبر تقنيات عميقة تمكن الذات من الانضباط وفق الميثاق الذي تعهدت باحترامه،طاعة لرب له أسماء حسنى،هي عينها القيم الأخلاقية الكونية.

لامجال هنا لتفصيل بنود الميثاق الإسلامي، الذي يخرج الإنسانية الراهنة أو الفائقة في الرغبة من نرجسيتها وتفاهتها وهو أمر بين،في الضوابط الأخلاقية التي تنبني على جانب باطني أخلاقي،وجانب الظاهر يتجلى في فقه سلوكي،ثم توجيه مقاصد هذه الضوابط إلى الصلاح الإنساني،وكل هذه العملية العميقة لها مشروعيتها ومصداقيتها المؤسسة عبر ميتافيزيقا قرآنية،عملت على بيان الروابط الكلية بين الله ،الكون والإنسان بوصفه مكرما بالخلافة،إنه لا يعاني من جرح الخطيئة إنما يحيى ظرف إيجابي بوصفه مكلف برعاية الإنسان والطبيعة رعاية الصلاح.

  هي الرؤية القرآنية التي تجعل من المشروع الأركوني البديل المعوض للإسلام بالحداثة الغربية،مشروعا متهافتا اللهم في مسألة النقد،ووجوب التحديث؛فقد ركزت الدعوة الأركونية على التغيير الخارجي المقلد،وعلى الرغم من الانتقادات الموجهة إلى هذا المشروع، إلا أن تحقيق مناط الحداثة كفيل بتقديم أسباب تهافت المشروع برمته،ذلك أن الغرب في حد ذاته يبحث عن حلول تعيد للإنسان والطبيعة التوازن،ويطالب تجاوز الحداثة،والاعتراف بعودة الدين إلى المجال العام والاعتراف بحقوق التدين[lxviii].ولذلك فالفكر الإسلامي مطالب اليوم بضرورة تحديث، يستوعب بواطن الذات وليس تحديثا من خارجه يمثل طوقا آخر يطوقها ويحصرها في أسئلة لا تعنيها،إذ الدخول في المنظومة الغربية يعني الانمحاء في الآخر،وهذا لا يعني الاعراض عن المقاربة المنتبهة.

الخاتمة –الاجتهاد الأركوني أو ما بعد الاجتهاد –الحداثة وبعدياتها ونهاية الأصول في الإسلام-:في تقصيه للحقيقة فهما وتحققا،يفصل الأنموذج الحداثي، بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون،أما نقطة البدأ لديه فهي محاصرة اليقين وتدمير وهدم الأصول؛وتمثل هذه المراحل المعرفية،تجلي لتاريخية العقل الغربي،بدأت هزة إنسانية نهضوية ضد اللاهوت اللامعقول وعنف الكنيسة،ليعقبها الكوجيتو بوصفه لحظة فرز للتراث المسيحي،ثم تم تعويضه اللاهوت بالمعقول،لذلك ستتخذ العقلانية منظورا كونيا،لامرد له وقد نصرها الكشف العلمي المتحقق بالحقائق المناقضة للنسخة الدينية.

   في تقصي الحقيقة واختبارها، يلتحم ما هو كائن ،مع ما ينبغي أن يكون ،في المعرفة في الإسلام،ونقطة البدإ فيها يقين بالأصول ورعاية لها عبر الاجتهاد،ليتعاضد النقل والعقل في التحقق بالحقيقة.وتعد الأصول علامة بدأ على ذلك ليكون التكليف محيطا بالحياة الإنسانية،بما أن الإنسان في الاسلام منخرط في أنموذج أنطولوجي،يجعله حاملا لأمانة الأداء الأخلاقي،بالنظر إلى انه مكلف بالخلافة،بمعنى أنه مسؤول على الإنسان والطبيعة بتمثل أسماء الله الحسنى،فلا يمكن البتة أن يكون حداثيا وفق الأنموذج الغربي للحداثة.

 تدلل المقابلة السالفة بين الأنموذج الحداثي الغربي من جهة،والأنموذج الإسلامي على المسارات التي يجب أن يسلكها التغيير في الفكر الإسلامي المعاصر،فالأنموذجان يتنافران ولا ينطبقان أخلاقيا وأنطولوجيا.كما تفسر هذه المقابلة فشل مشاريع التحديث التامة الجهوزية.لذلك يكون المشروع الأركوني قليل الفعالية،إنما يمكن من بناء مقارنة بين الأنموذجين واستخلاص النتائج بناء لحداثة إسلامية تنطلق من أنموذجها الأنطولوجي والأخلاقي الخاص،المؤسس على الشهادة والتعارف الكوني.

 تمثل الإسلاميات التطبيقية بوصفها بديلا أركونيا،عملية استحواذ للأنموذج  الغربي الحديث،على الأنموذج الإسلامي.اما عن العمليات الإجرائية التي تؤديها،فيبدو أنها تتكفل بالنقد والتفكيك لكي لا تنتقل البتة إلى مرحلة البناء والتأسيس،ففحص المنتوج الفكري لمحمد أركون دليل على ذلك،فهل قدمت المدونة الأركونية البديل عن الاجتهاد الكلاسيكي؟

 حاصل القول،إن أركون اتخذ التاريخ الإسلامي مجلا تطبيقيا للمناهج العقلانية الغربية،وجعل من القرآن نصا تاريخيا ومجالا تراثيا،على درب الإسلاميولوجيا، فأراد تفكيكه بوسيلة تطبيقية إجرائية هي علوم الإنسان والمجتمع،وبالذات أنثروبولوجيا الظاهرة الدينية،واتماما لمثل هذه المهمة يستعير الجهاز الدلالي لهذا الحقل،مثل الظاهرة القرآنية،القرآن خطاب أسطوري،وغيرها من الدلالات التي أخرجت القرآن من سياقاته،فهل من خلاصة بنائية للنقد أركوني؟ فما هو الفرق بين القرآن وتجليات القرآن؟لقد دخل  أركون في عملية تفكيك للقرآن انطلاقا من التاريخ الإسلامي،الذي يصلح فيه تطبيق الأنثربولوجيا التطبيقية،لمعرفة النمو والتطور الذي تجلى في الفرق والحركات الإسلامية،وهو الاختلاف الكائن بين الأنموذج المتجلي في القرآن والتاريخ الإسلامي كتفاعل بشري.

 تنتهي هذه الدراسة إلى تحديد بعض الخلاصات هي:

  • سلم أركون بالأنموذج الحداثي،كما وانطلق من المركزية الغربية، وعمم التاريخ الغربي على كل التراثات الإنسانية وجعل التراث الإسلامي عينة للدرس الغربي،فكانت المقاربات الأركونية امتثالية لمطلب المركزية الغربية.
  • اتخذ أركون رؤية تعميمية لا تمتلك لها تبريرا،إلا من قبل الرؤية الغربية المؤسسة على كونية العقل الغربي منذ اليونان إلى العصر الحديث بمرجعياتها الإغريقية الرومانية اليهودية المسيحية،لذلك يتخذ أركون الموقف التراتبي اتجاه تراثات البشرية عينه الذي تسلم به المركزية الغربية،مطالبا العقل الإسلامي بالانضواء تحت سلطة العقل الغربي.
  • يمثل الاجتهاد عملية عميقة ،في المسار الوجودي للحضارة الإسلامية،مقصدها الضبط ،وفق احكام شرعية،لها مرجعيتها الميتافزيقية المبينة في القرآن وتطبيقاته، التي وردت في السنة بوصفها خلاصة تطبيقية أخلاقية لهذه المرجعية.ولعل الحاجة إلى معايير الضبط العملي،هو الرهان المركزي للفكر الأخلاقي الراهن،إنه يجري أبحاثا في ضبط أدوات تسيير الأفعال البشرية نحو القيمة،بعد إنهيار المنظومات الأخلاقية بفعل السيادة المطلقة للعدمية،إن الإنسان اليوم في حيص بيص بعدما ماتت الأخلاق بسبب مركزية الأنا البشرية التي انفكت عن الميثاق،ولا ريب أن هذا الظرف الحديث وما بعد الحديث يدلل تدليلا قطعيا على مصداقية الاجتهاد في الحضارة الإسلامية.
  • ينتمي المشروع الفكري لمحمد أركون إلى تقليد الطارئ بل يمكن اعتبار القلم الأركوني قلما غربيا جعل من الإسلام موضوعا لدراسته التفكيكية.
  • كان للمذكرات التي كتبتها سلفي أركون عن والدها إجابة عميقة،عن الأسئلة الكبرى التي طرحها المشروع الأركوني،إنه وصال مع الكنسية عبر حوار عميق مع الآباء البيض[lxix]،لذلك يمكن وصفه بأنه مشروع غربي عن الفكر الإسلامي،يسعى إلى قولبة الإسلام قولبة تتطابق مع الأنموذج الغربي،انطلاقا من الشك في اليقين أي الإيمان،إلى خلق نزعة إنسانية تصبو إلى دين إنساني يتخلص من المعايير التي تميز الإسلام بوصفه رسالة تكليف بالأمانة،وصولا إلى تبني العلمانية التي تعني انفصال الدنيا عن الآخرة،ثم الديمقراطية التي هي فعل للحرية ولكنه تحين انفكاكا كليا عن ميثاق العهد المرسوم بين الله والإسان،أما الإسلام فهو قول وفعل،فمن تشبث بالعقل التجريدي لن ينال البتة ثمار العلم[lxx].

 

 

 

الهوامش

 

[i] -René Guénon : La crise de la modernité,Guallimard,2016, P.24.

[ii] -ديكارت:مقالة في الطريقة،ترجمة جمل صليبا، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع، بيروت لبنان،ط 2 ،1970 ،ص. 207.

[iii] - المرجع نفسه،ص .82.

[iv]  -إدوارد سعيد:الثقافة والإمبريالية،ترجمة كمال أبو ديب،دار الآداب للتوزيع والنشر،بيروت لبنان،ط 4 ،2014،ص. 139.

[v] -تفحص الجدل الفكري الذي أثارته كتابات نقدية،مثل كتب مصطفى عبد الرازق،طه حسين وزكي مبارك،ثم الحرب الكلامية التي أثارتها أفكار نصر حامد أبو زيد ومحمد أركون.وتفحص الحوارات التي جرت بين حسن حنفي ومحمد عابد الجابري.

[vi] - Luc Ferry : «Kant Penseur De Modernité» in Magazine Littéraire N° 309, Avril, 1993, P 156.

[vii] -تفحص في ذلك كتابات جيل لوبفتسكي وزيجمنت باومان،في تحليل فلسفي سوسيولوجي للمراتب التي حصلته الحداثة بعدما انفكت عن المعايير.

[viii]  -محمد أركون :القرآن –من التفسير المروث إلى تحليل الخطاب الديني –ترجمة هاشم صالح،دار الطليعة بيروت لبنان،ط 3 ،2012،ص .7.

[ix]  -المصدر نفسه،ص. 5.

[x] -محمد أركون:الأنسنة والإسلام-مدخل تاريخي نقدي- ترجمة محمود عزب،دار الطليعة بيروت،ط 1 ،2010 ،ص. 18.

[xi]  - وائل حلاق: الدولة المستحيلة –الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي – ترجمة عمرو عثمان ،المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ،الدوحة قطر،ط4 ،2016 ، ص. 165.

[xii] -زيغمونت باومان :الأخلاق في عصر الحداثة السائلة،ترجمة سعد البازعي ،بثينة إبراهيم ،هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة،كلمة ،ط1،2016 ،ص ص .61 -62.

[xiii] -المرجع نفسه،ص. 53.

[xiv]  -محمد أركون :تاريخية الفكر العربي الإسلامي،ترجمة هاشم صالح ،مركز الانماء القومي،المركز الثقافي العربي،بيروت لبنان ،الدار البيضاء المغرب،ط 2، 1996، ص. 10.

[xv]  -أبو حامد الغزالي:المستصفى من علم الأصول،دار الفكر بيروت لبنان ،د ط،دت ، ج 2 ،ص .350.

[xvi]  -أبو إسحاق الشاطبي:الموافقات في أصول الشريعة،دار الكتب العلمية بيروت لبنان،ط 2 ،2002 ،ج 4 ،ص. 64.

[xvii]  -محمد أركون: قضايا في نقد العقل الديني –كيف نفهم الإسلام اليوم؟ - ترجمة هاشم صالح ،دار الطليعة بيروت ،لبنان ،ط 4 ،2009 ص. 9.

[xviii]  - محمد أركون :القرآن –من التفسير المروث إلى تحليل الخطاب الديني ،ص. 74.

[xix] -محمد أركون: الأصول واستحالة التأصيل،ترجمة هاشم صالح،دار الساقي بيروت لبنان، ط 1،1999 ،ص ص. 14 -15.

[xx] -René Guénon : La crise de la modernité,Guallimard, P.25.

[xxi]  -وائل حلاق:ما هي الشريعة؟،ترجمة طاهرة عامر،طارق عثمان،مركز نكاء للبحث والدراسات،بيروت لبنان،ط 1، 2016 ،ص 34

[xxii] -محمد أركون:تاريخية الفكر العربي الإسلامي،ترجمة صالح هاشم،المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المغرب،بيروت لبنان، ط 2 ،1996 ص. 11.

[xxiii] - محمد أركون:قراءات في القرآن ،ترجمة هاشم صالح،دار الساقي ،بيروت لبنان،ط 1 ،2017 ،ص. 126.

[xxiv] -تفحص في ذلك مفهوم الأنثروبولوجيا التطبيقية ،عند روجي باستيد عبر مجموعة معتبرة من المقالات حول دراسة الظاهرة الدينية بصفة عامة وفي البرازيل بصفة خاصة، حيث يطبق مناهج بسيكوسويولجية،وعلاقة العقائد بالفولكلور عبر بعد تطبيقي يدرس الظاهرة الدينية في مجال تفاعلها وتعدد تجلياتها،وصلة العقائد والأديان بالتاريخ واللغة.

[xxv] - محمد أركون:تاريخية الفكر العربي الإسلامي،ص. 17.

[xxvi] -هذا الضرر الذي بدى مرضا عضالا ،تعاني منه الطبيعة،لتتعالى الأصوات منذرة بحصول الكارثة.لذلك تركزت الكتابات الأخلاقية،منذ فترة على تقديم الحلول الناجعة لتجاوز أزمة البيئة مشخصة لهذا الداء،فإذا بطبيعة المنظومة الحديثة هي التي أحدثت الخلل عبر المقولة الكبرى للحداثة،الإنسان سيد للطبيعة مالك لها،بمعنى أن روح الاستعلاء المنوطة بالإنسان وغايته النفعية، هي التي تسببت في الأزمة الإيكولوجية.لذلك يكون الحل في تغيير جذري للمنطق البشري الذي يسير اليوم العالم،عبر الأنظمة السياسية والاقتصادية المؤسسة أصلا على الأنانية المفرطة.

[xxvii] -Jean Bottéro :Naissance de Dieu –La Bible et l’historien-Gallimard ,2015,P.34

[xxviii] -Israel Finkelstein et Neil Asher Siberman :La Bible dévoilée, Gallimard,2015 ,P .38.

[xxix] -وهو أمر راجح بالنظر إلى طبيعة التوراة والأناجيل، التي هي عمل تاريخي بامتياز.كتاب يتجه وجهة تكتب تاريخ بني إسرائيل،وقد زاد يقين ذلك باكتشاف كتابات البحر الأسود. وكما هو حال الأناجيل،التي عدت كذلك مسألة في غاية الخطورة، بالاعتبارها مجموعة شهادات على حياة المسيح، يتم تغييرها في كل عصر وفي كل مصر.الحاصل أنه قد حدث أن تمت أورمة (روما) المسيحية، أي أنها اتخذت الاستراتيجية الدينية الوثنية لدولة روما التي تبنتها،فبعد عمليات الإبادة التي قامت بها روما ضد المسيحيين ،فجأة حلم قسطنطين حلما قام على إثره بتبديل الدين الوثني بدين يسوع ،الذي تشكل رويدا على نمط الدين الوثني ،حيث الآلهة أفرادا لها علاقات القرابة من أبوة وبنوة.كما وأنه تم تشريع السلطة السياسية عبر السيادة العليا،وهي عينها الرؤية المرجعية والوسيلة الأداتية،التي طبقها أركون على العقل الإسلامي.

[xxx] - محمد أركون :القرآن –من التفسير المروث إلى تحليل الخطاب الديني –ص. 86.

[xxxi]  -محمد أركون:معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية،ترجمة هاشم صالح،دار الساقي بيروت لبنان،ط1، 2001 ،ص. 23.

[xxxii] - محمد أركون :القرآن –من التفسير المروث إلى تحليل الخطاب الديني ص. 37.

[xxxiii] -يوسف الصديق:هل قرأنا القرآن ؟أم على قلوب أقفالها ،تعريب منصر ساسي ،دار محمد علي للنشرمع دار التوير ،صفاقس تونس ،ط 2 ،2015 ص. 82.

[xxxiv]  -محمد شحرور:الكتاب والقرآن،الأهالي للطباعة والنشر،دمشق سوريا،د ط،دت، ج1 ،ص. 51.

[xxxv]-مكسيم رودنسون:جاذبية الإسلام، ترجمة إلياس مرقص،التنوير،بيروت لبنان،ط 2 ،2005،ص 25

[xxxvi] -جورج تامر وآخرون:مقدمة ترجمة كتاب تيودور نلدكه: تاريخ القرآن،منشورات الجمل كولونيا ألمانيا،د ط،د ت،ص. X.

[xxxvii]  - محمد أركون :القرآن –من التفسير المروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص. 88.

[xxxviii] -وائل حلاق:مدخل إلى الشريعة الإسلامية، ترجمة طاهرة عامر،مركز نماء للبحوث والدراسات،ط1 ،2017 ،ص. 27.

[xxxix] - محمد أركون:تاريخية الفكر العربي الإسلامي،ص.8 .

[xl] -لم تكن مثل هذه الكتابة، نبأ جديدا بالنسبة للفكر الإسلامي،فقد أشار القرآن الكريم إلى هذه اللحظة الفاصلة، التي كان فيها رجال الدين،يغيرون كلام الله،ويكتبونه قراطيسا يبيعونها للناس.كما أن القرآن أشار بكل وضوح ،إلى فساد رجال الدين المسيحيين،وأكلهم أموال الناس بالباطل،وكنزهم للأموال المنهوبة من المؤمنين،ويصفهم القرآن بأن أكثرهم فاسقين.لذلك ليس حدثا جديدا بالنسبة للقرآن، فساد عقيدة التثليث،ولا تحريف التوراة والإنجيل ولا فساد رجال الدين.

[xli] -طه عبد الرحمن:روح الحداثة،المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء المغرب،بيروت لبنان،ط 1 ،2006 ،ص.17.

[xlii]  -محمد أركون:تاريخية الفكر العربي الإسلامي،ص. 166.

[xliii]  - المرجع  السابق،ص. 167.

[xliv]-المرجع السابق،ص.22.

[xlv] -لفهم المسار الأركوني في علاقته بالدرس النقدي، للنص الديني باعتباره منطلقا تاريخيا وإاتاجا بشريا، يخضع للمتغيرات السوسيو اقتصادية وثقافية،أنظر

Jean Bottéro :Naissance de Dieu –La Bible et l’historien-P 30                                                                                    

[xlvi] -نورة بوحناش: مقاصد الشريعة الإسلامية عند الشاطبي وتأصيل الأخلاق في الفكر العربي الإسلامي،دار ضفاف،بيروت لبنان،دار الاختلاف الجزائر،ط 1، 2012 ،ص. 97.

[xlvii]-محمد أركون : تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ص59.

[xlviii]-المرجع نفسه، ص.168.

[xlix]-المرجع نفسه ، ص.198.

[l]-المرجع السابق ،ص.168.

[li]- المرجع نفسه ،ص.170.

[lii]  -كان أركون من بين الحاضرين في المؤتمر الذي عقدته اليونسكون لبحث المسألة الأخلاقية العالمية،خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 ،أنظر مجموعة من المؤلفين بإدارة جيروم بيندي: القيم إلى أين ؟ ترجمة زهيدة درويش جبور،جان جبور،صدر الكتاب عن منظمة اليونسكو في 2004 والترجمة العربية عن دار النهار ،بيروت لبنان.

[liii]  -أركون:الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، ص. 29.

[liv] - محمد أركون :القرآن –من التفسير المروث إلى تحليل الخطاب الديني،ص.  30.

[lv] - المرجع السابق، ص.51.

[lvi] -وهم الإصلاحيون الذين عمروا زمان ما يصطلح عليه بالنهضة العربية،من أمثال جمال الدين الأفغاني محمد عبده،رشيد رضا وغيرهم الذين باشروا التغيير من قلب المسلمات الفكرية للتراث وللتاريخ العربي الإسلامي.

[lvii] -من هؤلاء نصرحامد أبو زيد،محمد شحرور،يوسف الصديق،عبد المجيد شرفي وغيرهم الكثير من اتجهوا إلى اعتبار أن خلاص الفكر العربي الإسلامي يكون من جهة الحداثة الغربية.

[lviii]  -محمد أركون:الفكر الإسلامي –قراءة علمية- مركز الإنماء القومي،المركز الثقافي العربي،بيروت لبنان،ط2 ،1996 ،ص. 27.

[lix] -محمد أركون:أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟ ترجمة هاشم صالح،دار الساقي بيروت لبنان،ط 4 ،2010،ص. 159.

[lx] -محمد أركون:تاريخية الفكر العربي الإسلامي،ص. 54.

[lxi]  -محمد أركون:تاريخية الفكر العربي الإسلامي،ص. 11.

[lxii] -ولد روجر باستيد Roger Bastide في نيم ، 1 أبريل 1898 - ميزون لافيت ،وتوفي في 10 أبريل   1974 ،وهو  كان عالم اجتماع وعالم أنثروبولوجيا فرنسي ،متخصص في علم الاجتماع والأدب البرازيلي. نال درجة الأغريغسيون في الفلسفة في عام 1924 ، انضم إلى بعثة المعلمين الأوروبيين في جامعة ساو باولو الجديدة في عام 1938 لشغل كرسي علم الاجتماع.أستاذ علم الاجتماع في ساو باولو من عام 1938 إلى عام 1957 ، نشر العديد من المقالات والدراسات باللغة البرتغالية، تركز بشكل أساسي على الديانات الأفريقية في البرازيل وأفريقيا،في عام 1958 ،تم تعيينه أستاذا لعلم الأعراق البشرية وعلم الاجتماع الديني، في جامعة السوربون ونشر كتاب علم الاجتماع والنفسية. قام بتحرير مجلة L’Année sociologique من 1962 إلى 1974 ،وكذلك مركز الطب النفسي الاجتماعي، ومختبر علم اجتماع المعرفة. يتعامل أحدث أعماله مع الأمراض العقلية بين الأفارقة والهنود الغربيين الذين يعيشون في فرنسا واضطرابات التكيف للمبعدين السابقين والتي جمع عليها ثروة من الوثائق.

 

[lxiii] أنظر مثلا-- Roger BASTIDE “Structures sociales et religions afro-brésiliennes.” Un article publié dans la revue Renaissance, New York, no 2/3, 1945, pp. 12-29.

[lxiv]  -محمد أركون:تحرير الوعي الإسلامي-نحو الخروج من السياجات الدوغمائية المغلقة،ترجمة هاشم صالح،دار الططليعة بيروت لبنان،ط 1 ،2011، ص. 46.

[lxv] -المرجع  السابق،ص .28.

[lxvi] -Gilles Lipovetsky :Le crépuscule du devoir ,Gallimard,1992,P .47.

[lxvii] - Gilles Lipovetsky :L’ére du vide , Gallimard,1993,P.70.

[lxviii]  -تشارلز تيلر وآخرون:قوة الدين في المجال العام،ترجمة فلاح رحيم،مركزدراسات فلسفة الدين،بغداد العراق،دار التنويرللطباعة والنشر،ط 1، 2013 ،ص. 66.

[lxix] تفحص- -Sylvie Arkoun : Les Vies De Mohamed Arkoun ,P U F ,2014,Edition barwakh ,Algerie ,2015

[lxx]  -طه عبد الرحمن:المعاني الإيمانية كيف تكون أدوات تحليلة ،كلية أصول الدين –تطوان المغرب،ط 1 ،2019 ،ص. 36.اا